الخميس، 7 مايو 2015

بحث الموازنة بين نظرية العامل ونظرية تضافر القرائن كاملا



الموازنة بين نظرية العامل ونظرية تضافر القرائن في الدرس النحوي

تأليف
الدكتور بهاء الدين عبد الوهاب عبد الرحمن
الأستاذ المشارك في النحو والصرف
كلية الآداب – جامعة الطائف
الإيميل
الموبايل
00966504524656





بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم الذي علم الإنسان بالقلم علمه ما لم يعلم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأكرم، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الجمع الأعظم، أما بعد

فعندما قال سيبويه في بداية كتابه:
(هذا باب مجاري أواخر الكلم من العربية، وهي تجري على ثمانية مجار، على النصب والجر والرفع والجزم، والفتح والضم والكسر والوقف.)
ثم بيّن كيف تكون صفة هذه المجاري في اللفظ بقوله: (فالنصب والفتح في اللفظ ضرب واحد، والجر والكسر فيه ضرب واحد، وكذلك الرفع والضم، والجزم والوقف.)
ثم علل جعل المجاري ثمانية لا أربعة كما في اللفظ فقال:
وإنما ذكرت لك ثمانية مجار لأفرق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة لما يحدث فيه العامل _وليس شيئا منها إلا هو ويزول عنه، وبين ما يبنى عليه الحرف بناء لا يزول عنه لغير شيء أحدث ذلك فيه من العوامل التي لكل عامل منها ضرب من اللفظ في الحرف، وذلك الحرف حرف الإعراب. ([1])
عندما قال سيبويه هذه الأقوال كانت نظرية العامل قد اكتملت في الدرس النحوي، وظهرت آثارها في جميع أبواب النحو، فرتبت الأبواب النحوية في كتاب سيبويه وفي جميع لكتب النحو بعده على أساس نظرية العامل، حتى إن سيبويه خصص بعد المقدمات في كتابه وبعد شرح ما يحتمل في الشعر ــ أول باب للحديث عن العوامل القياسية، ودرجات كل منها قوة وضعفا، وهو الباب الذي قال فيه:
(باب الفاعل الذي لم يتعد فعله إلى مفعول، والمفعول الذي لم يتعد إليه فعل فاعل، ولا يتعدى فعله إلى مفعول آخر، وما يعمل من أسماء الفاعلين والمفعولين عمل الفعل الذي يتعدى إلى مفعول، وما يعمل من المصادر، وما يجري من الصفات التي لم تبلغ أن تكون في القوة كأسماء الفاعلين والمفعولين التي تجري مجرى الفعل وليس بفعل ولم يقو قوته، وما جرى من الأسماء التي ليست بأسماء الفاعلين التي ذكرت، ولا الصفات التي هي من لفظ أحداث الأسماء، وتكون لأحداثها أمثلة لما مضى ولما لم يمض ، وهي التي لم تبلغ أن تكون في القوة كأسماء الفاعلين والمفعولين....وليست لها قوة أسماء الفاعلين التي ذكرت لك، ولا هذه الصفات، كما أنه لا يقوى قوة الفعل ما جرى مجراه وليس بفعل) ([2])
انتهى كلام سيبويه الذي جعل الفعل أصلا في العمل، ويأتي بعده في القوة أسماء الفاعلين والمفعولين، ثم الصفات المشبهة بها، ثم أسماء ليست بصفات، ولكنها عملت عملها وهو يقصد كما سيتبين الاسم التام والاسم المنسوب واسم الجنس.
وهكذا نسير في الكتاب على هدي نظرية العامل، ومثله فعل المبرد في المقتضب، وابن السراج في الأصول، غير أن ابن السراج نظم الموضوعات النحوية بصورة أفضل على أساس أن الكلام مؤلف من الاسم والفعل والحرف، فكان ترتيبه مبنيا على العوامل من الأسماء ثم العوامل من الأفعال ثم العوامل من الحروف، وبشكل عام فكل كتب النحو مؤلفة وفق نظرية العامل بوجه من الوجوه، وهذا غير خاف على من له أدنى إطلاع على المؤلفات النحوية.
ولم يعترض النحويون قديما على نظرية العامل إلا ما كان من ابن مضاء القرطبي وبعض علماء الظاهرية، ولم يلتفت إلى اعتراضه جمهور النحويين إلى أن حقق أحد المحدثين ([3]) كتابه (الرد على النحاة) وأثار من جديد الاعتراض على نظرية العامل، ودعا هو ومن أيده إلى تجديد النحو بإلغاء نظرية العامل، لأنها بزعمهم مسؤولة عما أصاب النحو من تعقيد وجمود وركود، ودعوا إلى ما سموه بالأخذ بالنهج الوصفي في دراسة النحو، حتى بلغ الأمر بتمام حسان أن يعلن في كتابه (اللغة معناها ومبناها) سقوط نظرية العامل ([4]) وحلول نظرية  أخرى محلها وهي نظريته التي سماها نظرية (تضافر القرائن) .
وقد تابعت منذ سنوات ما كتب عن نظرية العامل والبدائل المقترحة فوجدت قصورا واضحا في فهم نظرية العامل، لأنها تناولت العامل مجردا من مقتضياته التي لا تنفك عنه، ولا يمكن أن تكون نظرية العامل مفهومة على الوجه الصحيح ما لم ينظر إلى مقتضيات العامل على أنها داخلة في صلب النظرية ومن مكوناتها، وقد تنبه أستاذي الدكتور فخر الدين قباوة إلى مسألة مقتضيات العامل في كتابه مشكلة العامل النحوي ونظرية الاقتضاء ،  حيث طرح ما سماه نظرية الاقتضاء لحل الإشكال في نظرية العامل.
لذلك أردت في هذا البحث الذي سمّيته (الموازنة بين نظرية العامل ونظرية تضافر القرائن في الدرس النحوي) أن أوضح مفهوم العامل بكل مقتضياته، في الدرس النحوي التراثي وأوازنه بالاجتهادات العصرية التي حاولت وضع بدائل لنظرية العامل لنصل إلى ما يمكن أن يكون قولا فصلا في هذه الخلافات التي تضخمت على مرّ الزمان.
هل تصح دعاوى علماء اللغة المحدثين عن نظرية العامل ؟
وهل كان لابن مضاء حق فيما أثاره عن هذه النظرية؟
وما مقتضيات العامل التي أهملها المحدثون ولم يجعلوها من صميم نظرية العامل؟
وأيهما أصح أن يقال: نظرية العامل أم نظرية الاقتضاء؟
وأيهما أفضل للدرس النحوي نظرية العامل أم نظرية تضافر القرائن التي طرحها الدكتور تمام حسان بديلا عن نظرية العامل ؟
وستكون دراستي مبنية على المنهج الوصفي التحليلي في الموازنة بين هاتين النظريتين.
وسأذكر أسماء الباحثين دون ألقاب علمية، مع احترامي لهم ولجهودهم العلمية. وقد أُخبرتُ وأنا أراجع هذا البحث بوفاة تمام حسان صاحب نظرية تضافر القرائن، رحمه الله وجزاه عما قدم للعربية خيرا.
وأدعو الله سبحانه أن يهديني لما اختلف فيه من الحق بإذنه إن ربي على صراط مستقيم.


الدراسات ذات الصلة
1- نظرية العامل في النحو العربي. د.مصطفى بن حمزة.   ط1- مطبعة النجاح _الدار البيضاء.
2- المعنى والإعراب عند النحويين ونظرية العامل. د. عبد العزيز عبده أبو عبد الله _الكتاب والتوزيع والإعلان والمطابع_ليبيا_ طرابلس_ ط : 1391_1982
العلامة الإعرابية في الجملة بين القديم والحديث . د. محمد حماسة عبد اللطيف_ دار غريب القاهرة . ط : 2001
مشكلة العامل النحوي ونظرية الاقتضاء. د. فخر الدين قباوة _ دار الفكر دمشق . ط: 1424_2003.
ظاهرة الإعراب في النحو العربي وتطبيقها في القرآن الكريم د. أحمد سليمان ياقوت _ دار المعرفة الجامعة الإسكندرية. ط: 1993.



فصول البحث

الفصل الأول : مفهوم العامل في التراث النحوي.
الفصل الثاني: الأصول المستنبطة لبناء نظرية العامل.
الفصل الثالث : مقتضيات العوامل.
الفصل الرابع: الرد على مفهوم العامل في التراث النحوي.
الفصل الخامس: موقف المحدثين من نظرية العامل.
الفصل السادس: نظرية تضافر القرائن.
الفصل السابع: تقويم الموازنة بين نظرية العامل ونظرية تضافر القرائن.


الفصل الأول
مفهوم العامل في التراث النحوي.
لن أتعرض للحديث عن معنى العمل والعامل في اللغة، فهو واضح لا يحتاج إلى بيان، وإنما الذي يحتاج إلى الإيضاح معنى العامل في اصطلاح النحويين.
لا نجد في كتاب سيبويه ولا في الكتب التي تلته كالمقتضب والأصول تعريفا للعامل، وإن كان بالإمكان معرفة معناه من خلال الحديث عن علامات الإعراب، ففي نص سيبويه الذي ذكرته في المقدمة نفهم أن علامة الإعراب تختلف باختلاف العوامل الداخلة على الاسم المعرب، ولذلك عرّفه النحويون المتأخرون تعريفات مؤداها أن العامل هو ما أوجب كون الكلمة على وجه مخصوص من الإعراب. ([5])  
وقد شرح الإسفراييني هذا التعريف فقال :( اعلم أن تعلق الفعل وما أشبهه من الحروف والأسماء وغيرها بالاسم المتمكن سبب لثبوت وصف فيه ، كالفاعلية أو ما أشبهها والمفعولية أو ما جرى مجراها ، والإضافة ونحوها، وهذه معان معقولة، وتستدعي نصب علامات يستدل بها عليها فجعلوا الإعراب الذي هو الرفع والنصب والجر دلائل عليها ، وسموا تلك المعاني مقتضيات للإعراب، وسموا الأشياء التي تعلقها بالاسم المتمكن سبب لحدوث هذه المعاني العوامل... إذا عرفت هذا فقد عرفت معنى التعريف، فإن العامل بسببه يحدث المعنى المقتضي لكون آخر الكلمة على وجه مخصوص من الإعراب) ([6])
والإسفراييني يشير بالمعنى المقتضى إلى ما جاء في تعريف ابن الحاجب للعامل ، حيث قال في الكافية: والعامل ما به يتقوّم المعنى المقتضي. ([7])  
فإن معنى الفاعلية والمفعولية والإضافة  كون الكلمة عمدة أو فضلة أو مضافا إليها، وهي كالأعراض القائمة بالعمدة والفضلة والمضاف إليه بسبب توسط العامل. ([8])
يعني أن العامل سبب لتقوم المعنى المقتضي للإعراب في الاسم المعرب، والمعاني المقتضية للإعراب عند النحويين هي الفاعلية والمفعولية والإضافة وما ألحق بها ، ويرى بعضهم أن المقتضي قد يتخلف في بعض العوامل كما في حال جزم المضارع  في نحو: لم يضرب زيد ([9]) فالعامل هنا (لم) ولا يوجد بزعمهم مقتض للجزم في الفعل المضارع، وأرى أن المقتضي لا يتخلف عن العامل، وأن المقتضي للجزم هو معنى النفي على سبيل القطع، فالمعنى المقتضي لرفع المضارع هو قبوله  الحال الاستقبال، والمعنى المقتضي لنصبه هو خلوصه للاستقبال، والمعنى المقتضي للجزم هو نفيه على سبيل القطع أو طلب وقوعه على سبيل القطع أو النهي عن وقوعه على سبيل القطع.
فالخلاصة أن العامل يختلف عن المعنى المقتضي للإعراب فهو سبب لقيام المعنى المقتضي بالاسم المعرب أو الفعل المعرب لذلك يقول ابن يعيش:
( فالجر إنما يكون بالإضافة وليست الإضافة هي العاملة للجر، وإنما هي المقتضية له، والمعنيّ بالمقتضي ها هنا أن القياس يقتضي هذا النوع من الإعراب، لتقع المخالفة بينه وبين إعراب الفاعل والمفعول فيتميز عنهما).([10])
ومفهوم العامل نشأ في أول وضعه على يد أبي الأسود الدؤلي وتلامذته على ما يروي الزبيديّ في طبقاته، وهو قوله: (فكان أول من أصل ذلك وأعمل فكره فيه أبو الأسود ظالم بن عمرو الدؤلي ونصر بن عاصم  وعبد الرحمن بن هرمز فوضعوا للنحو أبوابا وأصلوا له أصولا، فذكروا عوامل الرفع والنصب والخفض والجزم ووصفوا باب الفاعل والمفعول والتعجب والمضاف). ([11]) 
ونجد مفهوم العامل أيضا في الروايات التي نقلت لنا اختلاف بعض العلماء الذين سبقوا سيبويه والخليل، كاختلاف عيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء في توجيه النصب في الطير من قوله تعالى (يا جبال أوبي معه والطير) ([12]) فكان عيسى يقول: هو على النداء كما في يا زيدُ والحارثَ ، وكان أبو عمرو يقول: النصب على إضمار فعل أي : وسخرنا الطير ([13]) وليس ببعيد أن يكون أبو الأسود الذي قام بتنقيط المصحف قد أعمل نكرة في مجيء الأسماء مضمومة الآخر ومفتوحة الآخر ومكسورة الآخر على نسق معين دائما فاستنتج أن رفع الفاعل يكون بورود فعل قبله ونصب المفعول كذلك وجر المضاف إليه يكون بذكر اسم قبله غير منون.. فجعل ما رآه سببا للرفع والنصب والجرّ عوامل ..
وليس بصحيح ما ذهب إليه بعض المحدثين وهو أن مفهوم العامل نشأ في النحو العربي بسبب تأثره بالمنطق الأرسطي مستدلا على ذلك بوجود فكرة التأثير والتأثر  في الفلسفة الأرسطيه ([14]) ،ففكرة التأثير التأثر يدركها العقل الإنساني المجرد بدون الاطلاع على الفلسفة الأرسطية وكذلك ليس بصحيح أن مفهوم العامل نشأ على يد الخليل([15]) لملاحظته التفاعل بين الحروف والحركات والكلمات باعتبار أنه واضع علم العروض ، لأن هذه الفكرة كانت موجودة قبل الخليل بحسب الروايات التي وصلتنا في كتب طبقات النحويين.
فمفهوم العامل نشأ من طبيعة العقل الإنساني الذي فطر على البحث  عن الأسباب ومعرفة العلل، وهو ما قرره أيضا بعض المحدثين بقوله: (ولقد كان التعليل في دراسة اللغة مسؤولا كذلك عن خلق نظرية العامل، فالفاعل مرفوع بعلة وجود الفعل، والمبتدأ مرفوع بعلة الابتداء وهلم جرا).([16])
ولم يختلف النحويون السابقون منهم واللاحقون حول مفهوم العامل الذي عرضناه ، غير أن بعض المحدثين نسب إلى ابن جني أنه خالف النحويين في نظرته للعامل، فقالوا: إن ابن جني اتجه في نظرته للعامل اتجاها يخالف سيبويه والبصريين ([17])  مستدلين بقوله: ( فأما في الحقيقة ومحصول الحديث فالعمل من الرفع والنصب والجر والجزم إنما هو للمتكلم نفسه لا لشيء غيره). ([18]) وهذا النص مجتزأ من نص طويل، لو أخذ كاملا لتبين أن نظرة ابن جني لا تختلف مطلقا عن نظرة سيبويه وغيره من النحويين من أن العامل هوما يوجب أن تكون الكلمة على وجه مخصوص من الإعراب.
لذلك سأثبت نص ابن جني كاملا ليتبين خطأ الاعتماد على هذا الاجتزاء ، فقد قال في باب مقاييس العربية:
(ومثله اعتبارك باب الفاعل والمفعول به بأن تقول :( رفعت هذا لأنه فاعل ونصبت هذا لأنه مفعول ، فهدا اعتبار معنوي لا لفظي، ولأجله ما كانت العوامل اللفظية راجعة في الحقيقة إلى أنها معنوية ألا تراك إذا قلت : ضرب سعيدٌ جعفراً فإن (ضرب) لم تعمل في الحقيقة شيئا، وهل تحصل من قولك (ضرب) إلا على اللفظ بالضاد والراء والباء على صورة (فَعَلَ) فهذا هو الصوت، والصوت لا يجوز أن يكون منسوبا إليه الفعل .
وإنما قال النحويون: عامل لفظي وعامل معنوي ليروك أن بعض العمل يأتي مسببا عن لفظ يصحبه كـ(مررت بزيد، وليت عمرا قائم) وبعضه، يأتي عاريا من مصاحبة لفظ يتعلق به، كرفع المبتدأ بالابتداء ورفع الفعل لوقوعه موقع الاسم. هذا ظاهر الأمر وعليه صفحة القول )([19]) ثم أورد النص الذي ذكرناه قبل هذا.
 فإٍسناد العمل للألفاظ أو المعاني ليست من قبيل أنها تقوم بنفسها بعمل الرفع والنصب والجر والجزم، فذلك أمر لا يتصوره عقل، لأن الألفاظ أصوات والمعاني أمور غير محسوسة، فكيف يمكن أن تؤثر بنفسها على الحقيقة؟؟
والدليل على أن ابن جني لا يختلف عن بقية النحويين في نظرته للعامل أنه ينسب العمل للعوامل في مواضع كثيرة، كقوله مثلا في (باب تقاود السماع وتقارع  الانتزاع) : (فلو كانت التاء في (ضربتك) هي العاملة في الكاف لفسد ذلك، من قِبَل أن أصل عمل النصب إنما هو للفعل، وغيره من النواصب مُشَبَّهٌ في ذلك بالفعل ، والضمير بالإجماع أبعد شيء عن الفعل من حيث كان الفعل موغلاً في التنكير، والاسم المضمر متناه في التعريف) ([20])
وقوله:( ألا ترى أنهم لما شبّهوا الفعل باسم الفاعل فأعربوه كنفوا هذا المعنى بينهما، وأيدوه بأن شبهوا اسم الفاعل بالفعل فأعملوه ) ([21])  (الخصائص) وقوله أيضا: ( إن الظرف يعمل فيه الوهم مثلا كذا عهد إليّ أبو علي رحمه الله في هذا ، وهذا لفظه لي فيه البتة) ([22]) 
فلا خلاف بين ابن جني وسيبويه وغيرهما من النحويين في مفهوم العامل على التحقيق.


الفصل الثاني
الأصول المستنبطة لبناء نظرية العامل

أقصد بالأصول المستنبطة لبناء نظرية العامل تلك التي استنبطت من استقراء النصوص اللغوية، والأخذ بحكم الأغلب في اللغة فيما يتعلق بالعامل من قوة أو ضعف، أو تقديم أو تأخير، أو فصل بينه وبين معموله، أو تقديم وتأخير بين معمولاته، وفي نظري أن كل ذلك راجع إلى قضية  قوة العامل وضعفه، وذلك مبني على تصرفه أو عدم تصرفه.
 ويستنتج من الباب الذي خصصه سيبويه عن العوامل القياسية الأصل الأول من أصول نظرية العامل، وأعني به الباب الذي كان عنوانا لأبواب كثيرة أتت بعده([23]) والذي قال فيه:
(باب الفاعل الذي لم يتعده فعله إلى مفعول، والمفعول الذي لم يتعد إليه فعل فاعل، ولا يتعدى فعله إلى مفعول آخر، وما يعمل من أسماء الفاعلين والمفعولين عمل الفعل الذي يتعدى إلى مفعول، وما يعمل من المصادر ذلك العمل، وما يجري من الصفات التي لم تبلغ أن تكون في القوة كأسماء الفاعلين والمفعولين التي تجري مجرى الفعل المتعدي إلى مفعول مجراها وما أجرى مجرى الفعل، وليست بفعل، ولم يقو قوته، وما جرى من الأسماء التي ليست بأسماء الفاعلين التي ذكرت لك، ولا الصفات التي هي من لفظ أحداث الأسماء، وتكون لأحداثها أمثلة لما مضى ولما لم يمضِ، وهي التي لم تبلغ أن تكون في القوة كأسماء الفاعلين والمفعولين التي تريد بها ما تريد بالفعل المتعدي إلى مفعول [ وتجري] ([24])مجراها، وليست لها قوة أسماء الفاعلين التي ذكرت لك، ولا هذه الصفات، كما أنه لا يقوى قوة الفعل ما جرى مجراه وليس بفعل.([25])
فالأصل الذي نأخذه من هذا النص أن الأصل في العمل هو الفعل، وأن الأسماء تعمل إذا أشبهت الأفعال، وجرت مجراها، وتكون قوة عملها تابعة لقربها أو بعدها عن الشبه بالأفعال، وبحسب الترتيب الذي جاء في نص سيبويه تكون العوامل من الأسماء مرتبة في القوة كالآتي:
1-                اسم الفاعل واسم المفعول وما ألحق بها من صيغ المبالغة.
2-                المصادر.
3-                الصفات المشبهة باسم الفاعل.
4-                أسماء الأفعال.
5-                أسماء التفضيل.
6-                الأسماء التامة نحو عشرين وأخواته مما ينصب التمييز.
7-                أسماء الأجناس.
وليس هذا الترتيب اعتباطياَ وإنما هو مأخوذ من واقع اللغة إذا أخذت الأحكام بحسب الأغلبية، فاستعمال اسم الفاعل والمفعول عاملاَ عمل الفعل في الكلام أكثر من استعمال المصدر، والتصرف بمعمولات اسم الفاعل والمفعول من حيث التقديم والتأخير أكثر من التصرف بمعمولات المصدر، وتأتي بعدهما الصفة المشبهة باسم الفاعل، ثم اسم الفعل، ثم اسم التفضيل والاسم التام واسم الجنس.
ثم إن الفعل واسم الفاعل الذي يجري مجراه يتعدى الفاعل إلى معمولات كثيرة فهو ينصب المفعول به والمفعول المطلق وقد ينصب المفعول معه، وينصب المفعول فيه والمفعول له، وينصب الحال والمستثنى بعد تمامه بفاعله، وقد ينصب التمييز، لذلك عدّ الفعل أصلاَ في العمل، وكل ما عدا الفعل يعمل إذا كان يشبه الفعل، يستوي في ذلك الأسماء والحروف وقد بينت الأسماء العاملة عمل الفعل، أما الحروف العاملة عمل الفعل فهي الحروف المشبهة بليس والحروف المشبهة بالفعل المعروفة بـ(إن) وأخواتها، ولتصوير درجتها في القوة في العمل أورد قول سيبويه عنها  في الباب الذي خصصه لهذه الحروف، قال:
(هذا باب الحروف الخمسة التي تعمل فيما بعدها كعمل الفعل فيما بعده، وهي من الفعل بمنزلة (عشرين) من الأسماء التي بمنزلة الفعل، لا تصرفُ تصرفَ الأسماء التي أخذت من الفعل وكانت بمنزلته، ولكن يقال: بمنزلة الأسماء التي أخذت من الأفعال، وشبهت بها في هذا الموضع، فنصبت درهما لأنه ليس من نعتها ولا هي مضافة إليه، ولم ترد أن تحمل الدرهم على ما حمل العشرون عليه، ولكنه واحد بيّن به العدد فعملت فيه كعمل الضارب في زيد إذا قلت: هذا ضارب زيدا،ً لأن زيداً ليسس من صفة الضارب ولا محمولاً على ما حمل عليه الضارب، وكذلك هذه الحروف منزلتها من الأفعال) ([26])
وينقل سيبويه عن الخليل تعليلاً يبين لنا ضعف عمل هذه الحروف قياساً على الأفعال، فقال:
( وزعم الخليل أنها عملت عملين الرفع والنصب كما عملت (كان) الرفع والنصب حين قلت كان أخاك زيدٌ، إلا أنه ليس لك أن تقول: كأنّ أخوك عبد الله تريد: كأنّ عبد الله أخوك، لأنها لا تصرفُ تصرفَ الأفعال ولا يضمر فيها المرفوع لما يضمر في (كان) فمن ثمّ فرقوا بينهما كما فرقوا بين (ليس) و (ما) فلم يجروها مجراها).([27])
ومن الأصول المتعلقة بالعامل عند سيبويه أن ما يعمل من الأفعال والأسماء والحروف مظهراً يعمل مضمراً مثل عمله مظهرا  . ([28])
ومن الأصول أيضاً أنه لا يجوز الفصل بين العامل والمعمول بما له الصدارة كحرف الاستفهام.([29])
وعكف الذين جاؤوا بعد سيبويه على استنباط أصول كثيرة ليكتمل بناء نظرية العامل حفلت بها كتب نحوية كثيرة وبخاصة تلك التي عنيت بالخلافات والاحتجاجات مثل كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف لأبي البركات الأنباري.
فمن تلك الأصول:
- الحرف أضعف من الفعل في العمل لأنه فرع عليه الأصل أقوى من الحرف لذلك لا يعمل حرف الجر مع الحذف إلا في مواضع يسيرة على خلاف الأصل.([30])
- لا يجوز إعمال معاني الحروف، لأن الحروف إنما وضعت نائبة عن الأفعال طلباً للإيجاز والاختصار، فإن أعملت معاني الحروف فقد رجعت إلى الأفعال فأبطلت ذلك المعنى من الإيجاز والاختصار([31])
- الحرف يعمل إذا كان مختصاً كحرف الجر لما كان مختصاً بالأسماء عمل فيها، فإذا بطل الاختصاص بطل العمل كحرف العطف.([32])
- أسماء الأفعال فرع على الأفعال في العمل وهي غير متصرفة في نفسها فوجب أن تكون غير متصرفة في عملها.([33])
-   العامل المعنوي ضعيف فلا يعمل في شيئين([34])
-   العامل في الشيء مادام موجوداً لا يدخل عليه عامل آخر.([35])
- العوامل في هذه الصناعة ليست مؤثرة حسية كالإحراق للنار والإغراق للماء والقطع للسيف إنما هي أمارات.([36])
- العامل سبيله أن يقدر قبل المعمول والمعمول لا يقع إلا حيث يقع العامل لأن المعمول تبع للعامل، ولو قلنا: إن المعمول يقع حيث لا يقع العامل لقدمنا التابع على المتبوع وذلك عدول عن الحكمة ([37]).
- العامل والمعمول كالعلة العقلية مع المعلول لا يفصل بينها وبين معلولها وكذلك العامل مع معموله إلا في مواضع استثنيت على خلاف الأصل لدليل راجح. ([38])
-   الأفعال أقوى العوامل، والمعنى أضعف العوامل. ([39])
- العامل اللفظي قد يتقوى بمثله وبالمعنى ولكن العامل المعنوي لا يتقوى بالعامل اللفظي. ([40])
هذه جملة من الأصول التي استنبطت من استقراء النصوص لبناء نظرية العامل. ([41])



الفصل الثالث
مقتضيات العوامل

أول من خصص قسماً في كتاب نحوي للمقتضي للإعراب هو تاج الدين محمد بن محمد الإسفراييني، فقد جعل القسم الرابع من كتابه لباب الإعراب للحديث عن المقتضي للإعراب، وعرفه بقوله:
(وهو توارد المعاني المختلفة على الكلام بسبب التركيب فإنها تستدعي ما ينصب دليلً على ثبوتها والحروف بمعزل عنها، وكذلك الأفعال لدلالة صيغتها على معانيها، وإنما محل المعاني المقتضية للإعراب هو الاسم، ومن ثم حكم له بأصالة الإعراب، وأصول تلك المعاني بحكم الاستقراء ثلاثة وهي الفاعلية وهي المقتضية للرفع والمفعولية وهي المقتضية للنصب والإضافة وهي المقتضية للجر) ([42])
وبناء على هذا المفهوم من حيث كون المقتضي للإعراب تواردَ المعاني المختلفة على الأسماء، وهذه المعاني تستدعي وضع علامات لتمييزها ـ جعل الإسفراييني الفاعل أصلاً للمرفوعات، والمفعول أصلاً للمنصوبات، والمضاف إليه أصل المجرور ولا فروع له، وبيّن مناسبة الرفع للفاعلية، والنصب للمفعولية، والجر للإضافة، إما بحكم التناسب، فلقوة الفاعل كان له الرفع الذي هو أقوى حالات الاسم، ولضعف المفعول كان له النصب الذي هو أضعف أحوال الاسم، ولكون المضاف إليه بين بين استحق الجر، لأنه بين الرفع و النصب من حيث الخفة.
وإما بطريق التعادل لاختصاص الأقل بالأقوى والأكثر بالأضعف.([43])
وهذه المعاني المتواردة على الأسماء تنشأ عن العوامل، فالفاعلية والمفعولية تنشآن عن الأفعال أو ما جرى مجراها، والإضافة ناشئة عن إضافة اسم إلى اسم، أو إضافة معنى فعل إلى اسم عن طريق حروف الإضافة.
فتوارد المعاني مقتضٍ لإعراب الاسم، وكل معنى من هذه المعاني مقتضٍ لنوع معين من الإعراب، فالفاعلية مقتضية للرفع، والمفعولية مقتضية للنصب، والإضافة مقتضية للجر، وهذه المعاني من مقتضيات العوامل.
وفي كتابه (مشكلة العامل النحوي ونظرية الاقتضاء) استعرض أستاذي فخر الدين قباوة النظريات التي فسرت ظاهرة الإعراب والعامل النحوي، وأشار أيضاً إلى نظرية التعليق التي ذكر الدكتور تمام حسان أن واضعها عبد القاهر الجرجاني، ولكنه لم يشر إلى نظرية تضافر القرائن تصريحاً، وخلص إلى القول: (لقد رأينا في المقدمات الماضية نماذج من المصطلحات النظرية تتصل بالعامل الإعرابي، وتكاد تكون بمجموعها عناصر مفسرة له، ولكنها تعجز عن تحديده تحديداً جامعاً مانعاً.
فإذا كان عاملنا هذا قد امتنع حصره فيها أو في بعضها أو في واحد منها فلنتوجه إلى نقطة ثانية تسعفنا في هذا المجال، وليكن وقوفنا إزاء ما يسمى بالاقتضاء فلعل فيه ما يحل مشكلتنا هذه، بعد أن اضطرب فيها النحاة بضعة عشر قرناً) ([44])
وهذا في نظري غير مسلّم، فلم يضطرب النحويون في فهم العامل وما تقتضيه العوامل من عهد الخليل وسيبويه إلى وقتنا الحاضر، وإنما اضطرب فهم ابن مضاء قديماَ وفهم المحدثين في عصرنا في إدراك معنى العامل، ولم ينتبهوا إلى ما تقتضيه العوامل في المعمولات.
وفي معرض بيانه لنظرية الاقتضاء قال فخرالدين:
(إن كل اسم أو فعل أو حرف مادام خارج التركيب فهو صالح غالباً للارتباط بآلاف المفردات ليكوّن كلاماً مفيداً فإذا دخل حيّز التركيب التعبيري صار بؤرة نشطة لمجال محدود من تلك المفردات، يتفرغ لها دون سواها، ويشغل بها وحدها، فيكون بينها تفاعل صوتي ومعنوي، وبذلك يكون له اقتضاء وظائف نحوية تحقق أبعاده ومقاصده في هذا التعبير نفسه)([45])
ويفهم من كلام أستاذي فخر الدين أنه يريد بالمقتضيات المعمولات، حيث قال:
(فلا غرو أن يكون الفعل أصلاً في العمل الإعرابي لأنه أكثر عدداً للمقتضيات) ([46]) ذلك لأنه يقتضي فاعلاً ومفعولاً به ومفعولاً معه ومفعولاً له إلى آخر مقتضياته.
ذكرت كل هذه النصوص من كلام أستاذي فخر الدين أمد الله في عمره لأبيّن أنني أريد من مقتضيات العوامل شيئاً أعمّ مما ذهب إليه، وهذه المقتضيات تابعة للعامل، لذلك فهي تابعة لنظرية العامل فلا داعي أن نسمي بياننا لهذه المقتضيات نظرية الاقتضاء، لأن ما ذكره ملحوظ ومعروف في التراث النحوي.
في نظرية العامل بحسب المفهوم من كتب النحو التراثية يتألف التركيب اللغوي المفيد من عوامل ومعمولات وعمل، ولكن لكل عامل مقتضيات في المعمولات وفي العمل.
وسأبدأ بأقوى العوامل وهو الفعل:
الفعل له معمولات كثيرةٌ، فالفعل اللازم يمكن أن يعمل في الفاعل وفي المفعول المطلق وفي المفعول فيه وفي المفعول معه وفي المفعول له وفي الحال والمستثنى والتمييز، والمتعدي منه إضافة إلى هذه المعمولات يتعدى إلى مفعول أو اثنين أو ثلاثة، وللفعل في كل معمول من هذه المعمولات مقتضيات، فهو يقتضي في الفاعل أن يكون اسما صريحاً أو مؤولاً، ويقتضي أن يكون الاسم الصريح مرفوعاً، ويقتضي أن يكون هذا الاسم مؤخراً عنه، ويقتضي إن كان مؤنثاً غير مفصول عن الفعل أن يؤنث الفعل معه، كما يقتضي أن يكون هذا الاسم قائماً بالفعل، أي الفعل مسند إليه. فهذه كلها مقتضيات يقتضيها الفعل في فاعله، ويلحظ أن مقتضى الرفع مقتضى من عدة مقتضيات، وهو المقتضى الذي خصه النحويون بالعناية لكونه من الأدلة المهمة لتعيين المعنى النحوي للاسم.
فإذا انتقلنا للمفعول به مثلاً وجدنا أيضاً أن للفعل مقتضيات عدة في المفعول به، فهو يقتضي أن يكون المفعول اسماً صريحاً أو مؤولاً، ويقتضي أن يكون الصريح منصوباً، ولا يلزم أن يكون متأخراً عن الفعل ويقتضي إذا كان في الفاعل ضمير يعود للمفعول أن يكون قبل الفاعل، وبعض الأفعال يتدخل معناه اللغوي في تغيير بعض المقتضيات، فالفعل (تخاصم) يقتضي فاعلين أحدهما معطوف على الآخر.
وهكذا الأمر مع بقية المعمولات، فالفعل يقتضي أن يكون له معمولات، أي كلمات تتعلق به، كما يقتضي في هذه المعمولات أموراً مخصوصة مبينة في الأبواب النحوية المخصصة لها، فكل الأمور المتعلقة بالفاعل هي من مقتضيات عامله، وهو الفعل، وكذلك كل الأمور المذكورة في باب المفعول به هي مقتضيات للفعل، لأن الفعل يتطلب الفاعل والمفعول مصحوبين بهذه المقتضيات.
والعامل المعنوي أضعف المعمولات، وعند البصريين لا يوجد غير عاملين معنويين، وهما الابتداء وهو العامل في المبتدأ الرفعَ، والوقوع موقع الاسم وهو العامل في الفعل المضارع الرفعَ، وإذا أخذنا الابتداء لنعرف مقتضياته في المبتدأ وجدنا الآتي:
يقتضي الابتداء أن يكون المبتدأ اسماً صريحاً أو مؤولاً مخبراً عنه، والاسم الصريح ينبغي أن يكون معرفة أو نكرة موصوفة أو مضافة لنكرة، وإن كان نكرة بغير وصف أو إضافة اقتضى الابتداء أن يكون هذا المبتدأ واقعاً في سياق نفي أو استفهام، كما يقتضي إن كان المبتدأ وصفاً معتمداً على نفي أو استفهام أن يكون نكرة عاملة في مرفوع مستغنية به عن الخبر، كما يقتضي الابتداء إن كان المبتدأ نكرة ـ و خبره ظرف أو جار ومجرورـ أن يتقدم الخبر على المبتدأ، فهذه الأمور كلها من مقتضيات الابتداء الذي هو عامل معنوي.
وهكذا بقية العوامل القياسية منها والسماعية، فحرف الجر مثلاً يقتضي أن يكون معموله اسماً صريحاً أو مؤولاً، والاسم الصريح يكون مجروراً غير مفصول عنه، وبعض حروف الجر تقتضي أن يكون معموله اسماً غير ضمير، و(إنّ) التي تعمل في المبتدأ والخبر تقتضي أن يكون المعمول الأول منصوباً والثاني مرفوعاً، كما تقتضي وجوب تقدم المعمول الأول على الثاني إن لم يكن الثاني ظرفاً أو جاراً و مجروراً، وتختلف عن الابتداء فلا تقتضي أن يكون معمولها الأول معرفة.
وعلى هذا النهج يمكن استقصاء مقتضيات العوامل في كل باب نحوي.

الفصل الرابع
الرد على مفهوم العامل في التراث النحوي


لا نجد في التراث النحوي المتقدم خلافا حول مفهوم العامل بين النحويين ولا إنكارا له إلا ما ينسب إلى قطرب الذي لم يكن يربط بين العوامل وبين اختلاف حركات أواخر الكلمات في الجملة , وإنما الاختلاف عنده في هذه الرواية للمساعدة على اعتدال الكلام وسهولة النطق.
فقد ذكر الزجاجي أن قطربا خالف النحويين جميعا في النظر إلى ظاهرة الإعراب, فجميع النحويين متفقون أن الإعراب دخل الكلام للتمييز بين معاني الفاعلية والمفعولية والإضافة، ماعدا قطربا الذي عاب عليهم هذا الاعتلال , وقال: لم يعرب الكلام للدلالة على المعاني والفرق بين بعضها وبعض، لأننا نجد في كلامهم أسماء متفقة في الإعراب مختلفة في المعاني وأسماء مختلفة في الإعراب متفقة في المعاني. ([47])
وضرب قطرب مثالا للأسماء المتفقة في الإعراب المختلفة في المعاني إن زيدا أخوك , ولعل زيدا أخوك , وكأن زيدا أخوك , فهذا كله اتفق إعرابه واختلف معناه , وضرب مثالا لما اتفق معناه واختلف إعرابه : ما زيد قائما وما زيد قائم , ثم ذكر الزجاجي رأي قطرب في تفسير ظاهرة الإعراب فقال : (قال [أي قطرب] :  فلو كان الإعراب إنما دخل الكلام للفرق بين المعاني لوجب أن يكون لكل معنى إعراب يدل عليه، لا يزول إلا بزواله , قال قطرب وإنما أعربت العرب كلامها لأن الاسم في حال الوقف يلزمه الإسكان في الوقف، فلو جعلوا وصله بالسكون أيضا لكان يلزمه الإسكان في الوقف والوصل , وكانوا يبطئون عند الأدراج فلما وصلوا وأمكنهم التحريك جعلوا التحريك معاقبا للإسكان ليعتدل الكلام .....) ([48])
وعند ما قيل لقطرب: لماذا لم يلتزم العرب حركة واحدة  مادام أن الغرض هو تعاقب الحركة والسكون, قال : لو فعلوا ذلك لضيقوا على أنفسهم.
وقد رد عليه النحويون، ولم يرضوا هذا التعليل فقالوا : لو كان كما زعم لجاز خفض الفاعل مرة ورفعه أخرى , ونصبه، وجاز نصب المضاف إليه، لأن القصد هو تعاقب الحركة والسكون. ([49])
 وردهم هذا كاف في بيان سقوط مذهب قطرب , وأما عن اعتراضه بوجود أسماء متفقة الإعراب مختلفة المعاني , فهو خلط بين معاني الحروف ومعاني النحو.
و في القرن السادس الهجري ظهر في الأندلس عالم ظاهري أنكر على النحويين القول بوجود عوامل في اللغة , وألف كتابا سماه الرد على النحاة, وأعني به ابن مضاء أحمد بن عبد الرحمن بن محمد اللخمي ([50])
انطلق ابن مضاء في دعوته من موقف ديني, فهو يقول في مقدمة كتابه ( أما بعد فإنه حملني على هذا الكتاب قول الرسول صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة وقوله من قال في كتاب الله برأيه فأصاب فقد أخطا.)
وقوله ( من قال في كتاب الله بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ) ([51])
ثم يوجه كلامه للنحويين قائلا:
(وأنا أنصحكم لا للاقتناء وللاكتساب، ولكن لابتغاء الأجر من الله والثواب... فمن حزم وعمل ... تخلص ... ومن أعرض عنه ... هلك هلاك العجماء في الفيفاء ) ([52])
وخصص ابن مضاء فصلاً للحديث عن إلغاء العوامل, فقال:
(قصدي في هذا الكتاب أن أحذف من النحو ما يستغني النحوي عنه وأنبه على ما أجمعوا على الخطأ فيه :
فمن ذلك ادعاؤهم أن النصب والخفض والجزم لا يكون إلا بعامل لفظي، وأن الرفع منها يكون بعامل لفظي وبعامل معنوي) ([53])
ثم يعلق على قول سيبويه في الكتاب :
(وإنما ذكرت ثمانية مجار، لا فرق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة لما يحدثه فيه العامل , وليس شيء منها إلا وهو يزول عنه , وبين ما يبنى عليه الحرف بناء لا يزول عنه لغير شيء أحدث ذلك فيه) ([54])
يعلق على هذا ابن مضاء، فيقول : (فظاهر هذا أن العامل أحدث الإعراب , وذلك بيّن الفساد) ([55])
ثم ذكر ابن مضاء أن ابن جني خالف سيبويه , فقال : (وقد صرح بخلاف ذلك أبو الفتح بن جني وغيره , قال أبو الفتح في خصائصه بعد كلام في العوامل اللفظية والعوامل المعنوية : وأما في الحقيقة ومحصول الحديث فالعمل من الرفع والنصب والجر والجزم إنما هو للمتكلم نفسه لا لشيء غيره ) ([56])
ثم ردّ ابن مضاء على ابن جني أيضا , وبخاصة قوله (لا لشيء غيره) فقال ابن مضاء : ( وهذا قول المعتزلة وأما مذهب أهل الحق , فإن هذه الأصوات إنما هي من فعل الله تعالى , وإنما تنسب إلى الإنسان كما ينسب إليه سائر أفعاله الاختياريه ) ([57])
إلى هنا نفهم من كلام ابن مضاء أن سيبويه نسب العمل من رفع ونصب وجر وجزم للعوامل، وأن ابن جني نسبه للمتكلم، وفي نظره كلا الرأيين باطل , وقد بيّن بطلان قول ابن جني بمذهب أهل الحق كما قال , وهو أن أفعال العباد التي تنسب إليهم لأنها من اختيارهم إنما هي من خلق الله  ([58])
وأما في الرد على سيبويه فيقول ابن مضاء :
وأما القول بأن الألفاظ يحدث بعضها بعضا فباطل عقلا وشرعا , لا يقول به أحد من العقلاء.([59])
وقال: إن الفاعل إما أن يكون فاعلا بإرادة أو بطبع، والعوامل النحوية لا تفعل لا بإرادة ولا بطبع، لذلك لم يقل بعملها عاقل. ([60])
ولا أدري كيف فهم ابن مضاء كلام النحويين , وكلام ابن جني فلا خلاف بين سيبويه وبين ابن جني في مفهوم العامل , فنسبته الرفع والنصب والجر للمتكلم يصرح به سيبويه في كلامه كثيرا، وكلاهما يرى أن المتكلم ليس حرا في رفع الكلمات ونصبها وجرها، وإنما يتبع في ذلك عرفا لغويا مبنيا على مفهوم العامل أصلا, وقد قال ابن جني قبل كلامه السابق :
(وإنما قال النحويون عامل لفظي ومعنوي، ليروك أن بعض العمل يأتي مسببا عن لفظٍ يصحبه ... وبعضه يأتي عاريًا من مصاحبة لفظ يتعلق به) ([61])   
كيف يفكر ابن مضاء بأن سيبويه يريد أن الألفاظ هي التي تحدث في بعضها الرفع والنصب والجر والجزم؟ إن هذا لا يخطر إلا على بال ظاهري لا يفهم من الكلام إلا ظاهره بشكل جامد متحجر .
فدعوة ابن مضاء لإلغاء العوامل مبنية على فهم خاطئ لمفهوم العامل عند النحويين، وعلى فهم خاطئ أيضا لمفهوم العامل عند ابن جني.  
وابن مضاء في دعوته هذه متأثر جدا بابن حزم الذي يقول : (حمل الكلام على ظاهره الذي وضع له في اللغة فرض لا يجوز تعديه إلا بنص أو إجماع , لأن من فعل غير ذلك أفسد الحقائق كلها والشرائع كلها والمعقول كله ) ([62])
وكان ابن حزم يرى التعمق في النحو فضولا " لا منفعة بها، بل هي مشغلة عن الأوكد ومقطعة دون الأوجب , وإنما هي تكاذيب "
وكان يرى علل النحو فاسدة, وهي عنده كذب لا يخفى على كل ذي حس. ([63])
ولكن ابن مضاء تجاوز ابن حزم، فطبق مذهبه على عبارات سيبويه، وفهم منها ما لم يخطر على بال سيبويه رحمه الله
ولا أجد مسوغا لإعطاء كل هذا الاهتمام لكتاب ابن مضاء في عصرنا واتخاذه متكأ لدراسات، هدفت بزعم بعضهم لتجديد النحو وتيسيره، والذي غرهم في نظري عبارة ابن مضاء التي ذكرناها سابقا : قصدي في هذا الكتاب أن أحذف من النحو ما يستغني النحوي عنه وأنبه على ما أجمعوا على الخطأ فيه.
ولكن لا نجد في الكتاب ما يحقق هذا القصد، ولولا ما أثير حول هذا الكتاب في عصرنا هذا لما تعرضت لذكره في هذا البحث فهو لا يرقى إلى مستوى المناقشة العلمية الموضوعية.
















الفصل الخامس
موقف المحدثين من نظرية العامل

اختلفت آراء المحدثين في نظرية العامل ما بين مؤيد لها وداع إلى إلغائها، وسأعرض هنا أبرز هذه الآراء ..
يرى إبراهيم أنيس أن حركات الإعراب لا تعدو في نشأتها أن تكون بمثابة الروابط بين الكلمات، فهي ضرورة صوتية , أما الذي يعين حركة معينه فأحد عاملين: أولهما إيثار بعض الحروف لحركات معينه كحروف الحلق حين تؤثر الفتح، ثانيها انسجام هذه الحركة الرابطة مع ما يكتنفها من حركات أخرى ([64]).
وهذا الرأي قريب مما ذهب إليه قطرب من النحويين المتقدمين، ويردّ على هذا الرأي بأنه كان ينبغي أن يكون الفاعل الذي ينتهي بحرف حلقي منصوبا، والمفعول المنتهي بحرف غير حلقي مرة مرفوعا ومرة مجرورا، وهذا ما لم يرد في لغة العرب، وكفى بهذا دليلا على بطلان هذا الرأي.
أما إبراهيم مصطفى فبعد أن عرض أصول نظرية العامل وما أدت إليه في التطبيق على الدرس النحوي ـ بحسب رأيه ـ من أمور بعيدة عن معاني التراكيب من تأويل وتقدير – رأى أن أكبر ما يوجه إلى نظرية العامل من نقد أنهم جعلوا الإعراب حكما لفظيا خالصا يتبع لفظ العامل وأثره , ولم يروا في علاماته إشارة إلى معنى ولا أثرا في تصوير المفهوم([65]).
لذلك راح يبحث عن معاني العلامات الإعرابية وأثرها في تصوير المعنى، فلا يهمه البحث عن العامل الذي أحدث الحركة، ولكن يهمه المعنى الذي تشير إليه الحركة.
وخلص إبراهيم مصطفى بعد دراسته للعلاقة بين المعنى و العلامة الإعرابية إلى أن الرفع عَلمٌ للإسناد, ودليل على أن الكلمة المرفوعة يراد الإسناد إليها, وأن الكسرة علم للإضافة، سواء أكانت بأداة أو بغير أداة, وأما الفتحة فليست علامة إعراب، ولا دالة على شيء، بل هي الحركة الخفيفة المستحبة عند العرب, فهي بمثابة السكون في لغة العامة ([66]).
ثم خصص حديثا طويلا عن عدم دلالة الفتحة على أي معنى, فما لم يكن مسندا إليه ولا مضافا إليه أعطي الفتحة لخفتها لا غير .
وأقول: إن ما جاء به إبراهيم مصطفى لا يختلف عما ذكره النحويون من قبل, فقد جعلوا معاني النحو ثلاثة: الفاعلية والمفعولية والإضافة, وأن كل ذلك تقتضيها العوامل.
لكن إبراهيم مصطفى لا يريد أن يربط هذه المعاني بالعوامل، فربط الرفع بالإسناد، والجر بالإضافة، والنصب لما عدا ذلك بدون أن يشير إلى العامل.
ومعلوم أن الإسناد لا يكون إلا بإسناد اسم إلى اسم, أو فعل إلى اسم, فإن كان الإسناد إسناد اسم لآخر فالعامل في المسند إليه هو الابتداء عند النحويين, وهو يعني تخصيص المسند إليه بالحديث عنه, والمسند إليه في حال المبتدأ والخبر هو العامل في المسند لأنه يتطلبه, أما إبراهيم مصطفى فيرى أن الخبر تابع للاسم مثل الصفة, أما خبر (كان) فليس بتابع, وخبر (إن) تابع لاسمها باعتبار أن اسمها الأصل فيه الرفع..
ولا ندري كيف يكون خبر المبتدأ تابعا للمبتدأ وخبر (إن) تابعا لاسم (إن) أما خبر (كان) فليس بتابع؟
وقد سلك في تعليل نصب اسم (إن) مسلكا لا يقبله المنطق، وهو أن اتصال (إن) بالضمائر في الاستعمال أكثر من اتصالها بالأسماء الظاهرة، وكان ينبغي أن يكون اتصالها بضمائر الرفع لأن اسم (إن) محله الرفع، لكن عدل عن ضمير الرفع إلى النصب، فتوهم العرب أن محل اسمها النصب، فنصبوا بها الأسماء الظاهرة ([67]).
ومرة أخرى لا ندري كيف توهموا في محل اسم (إن) النصب فنصبوا الاسم، وعندما جاؤوا لخبر (إن) وجعلوه تابعا للاسم لم يتوهموا أن محل الاسم النصب، وإنما تذكروا أن محله الرفع فرفعوا الخبر؟
كلُّ هذا لأجل رَفْضِ الربْطِ بين الرفعِ والنصب والجرّ وبين العوامل.
يبقى الخلاف الرئيس حول أن النصب ليس علما للمفعولية كما ذهب إليه النحويون، وإنما هو في نظره لأجل الاستخفاف، لأن الفتحة أخف من بقية الحركات بل أخف من السكون.
وأرى أنه لا مانع أن يكون النصب علما للمفعولية, فكل المنصوبات مفعولات في المعنى, وإن استُشكِل الأمر بالحال فالحال كما يقول سيبويه مفعول فيها, لأنها هيئة يقع فيها الفعل, وإن استشكل الأمر بالمستثنى فهو في المعنى مفعول, لأنه يستثنى مما دخل فيه المستثنى منه, وإن استشكل الأمر بالتمييز فهو أيضا مفعول لأنه لفظ يزال به الإبهام.
وربط الرفع بعامل هو الفعل أو ما أشبهه أو بالابتداء كما هو عند النحويين أسلم من ربطه بالإسناد, لأن الاسم قد يكون مسندا إليه في المعنى ولا يكون مرفوعا, مثل أن تقول : مررت بزيد يكتب، فزيد وفق تصنيف إبراهيم مصطفى مسند أسند إليه الفعل (يكتب)، وهو في الوقت نفسه مضاف إليه بواسطة حرف الإضافة الباء, ولا يقال: إن الفعل (يكتب) مسند إلى ضمير (زيد) لأن إبراهيم مصطفى لا يعترف بإسناد الفعل إلى الضمير، فالفاعل في مثل: زيد يكتب, هو زيد تقدم على الفعل, وفي مثل : الزيدان يكتبان، المسند إليه هو الزيدان، وهو الفاعل, وألف الاثنين في الفعل علامة للتثنية ليطابق المسندُ المسندَ إليه.
أما تفسيره لنصب اسم (إن) فمن العجب، فقد اعتمد على ما أحصاه في القرآن الكريم من الجمل التي استعملت فيها (إن) فوجد أن اتصالها بالضمائر أكثر من دخولها على الأسماء الظاهرة، ولكونها حرفا لم تتصل بضمائر الرفع، واتصلت بضمائر النصب، فتوهمت العرب أن محل اسمها النصب، فلما أدخلوها على الاسم الظاهر نصبوا بها.
وليس هذا التفسير بشيء، فهو غير منطقي كما بينا، فضلا عن أن الإحصائية ليست دقيقة، والفرق يسير جدا بحسب إحصائيته نفسها ، ولو سلمنا بما زعم من كثرة استعمالها مع الضمائر في القرآن الكريم فهذا لا يعني أن هذا الأمر ينطبق على كل كلام العرب، وبناء على المبدأ نفسه يجب أن يقوم بإحصائيات عن بقية أخوات (إن) في كلام العرب، ولو ثبت أنها فعلا تتصل بالضمائر أكثر فهذا لا يعني أن الأسماء نصبت حملا لها على الضمائر، لأن الأسماء أصل والضمائر علامات لما أضمر منها، فضلا عن أن قوله هذا يناقض قوله في رفع خبر (إن) فهو بزعمه مرفوع بتبعيته لمحل اسم (إن) الذي هو الرفع، فكيف يتوهمون أن محل الاسم النصب فينصبون الاسم ثم يرجعون فيتذكرون أن أصل محله الرفع فيرفعون الخبر تبعا للمحل ..؟
وبهذا نرى أن محاولة إبراهيم مصطفى إلغاء العامل وربط الرفع بالإسناد والجر بالإضافة والنصب بالخفة لم تقدم تفسيرا منطقيا لكثير من الظواهر النحوية ولم ترق للحلول محل نظرية العامل، لما فيها من ثغرات لم يستطع صاحبها أن يسدها بأدلة مقنعة.
ومِنَ الذين تبنوا ردّ ابن مضاء على النحويين شوقي ضيف في مقدمة تحقيقه لكتاب الرد على النحاة، فهو يقول:
وما العامل؟ إن كل ما تصوره النحاة في عواملهم النحوية تصور باطل، وهل يستطيع أحد أن ينكر ما يقوله ابن مضاء؟([68])
نعم أنا أنكر ما يقوله ابن مضاء، فهو لم يفهم ما عناه النحويون بالعامل وأثره, ومَنْ يؤيد قول ابن مضاء فهو مثله لا يفهم مراد النحويين بالعامل، والرد عليهم مضيعة للوقت والجهد.
ومن الذين دعوا إلى إلغاء نظرية العامل تمام حسان في عدد من مؤلفاته، فهو يقول في كتابه (اللغة بين المعيارية والوصفية):
(ما العامل إذن؟ في الحقيقة أن لا عامل. إن وضع اللغة يجعلها منظمة من الأجهزة, وكل جهاز منها متكامل مع الأجهزة الأخرى،ويتكون من عدة من الطرق التركيبية العرفية المرتبطة بالمعاني اللغوية، فكل طريقة تركيبية منها تتجه إلى بيان معنى من المعاني الوظيفية في اللغة، فإذا كان الفاعل مرفوعا في النحو فلأن العرف ربط بين فكرتي الفاعلية والرفع دونما سبب منطقي واضح، وكان من الجائز جدا أن يكون الفاعل منصوبا والمفعول مرفوعا لو أن المصادفة العرفية لم تجر على النحو الذي جرت عليه.) ([69])
ولا أدري لِمَ نفى تمام حسان وجود العامل مع أن نظرية العامل لا تتعارض مع ما ذكر من كون اللغة جهازا متكونا من طرق تركيبية عرفية مرتبطة بالمعاني اللغوية والوظيفية، فإذا كان العرف اللغوي قد ربط بين الرفع والفاعلية فإن نظرية العامل تقول: إن الفعل يرفع الفاعل لوجود التلازم في العرف اللغوي بين الفعل والفاعل.. وهكذا بقية العوامل..
ومن الغريب حقا أن يذهب باحث مثل تمام حسان إلى تأييد نقد ابن مضاء المتهافت لنظرية العامل حيث يقول في كتابه مناهج البحث في اللغة: (وابن مضاء أيضا ممن هاجموا نظرية العامل فأبانوا فسادها على أقصى حدود الإبانة .) ([70])
وقد بينت فساد ما ذهب إليه ابن مضاء وأنه لم يفهم مراد النحويين من العامل, ولكن تمام حسان وإن كان يؤيد ابن مضاء في رده يرى أنه ألغى عاملا وفرض عاملا آخر هو المتكلم، وهذا لا تجيزه الدراسات اللغوية الحديثة، لأن المتكلم لا يرفع ولا ينصب بنفسه، وإنما بحسب القواعد.
مؤدى كلام تمام حسان أنه لا توجد عوامل ترفع وتنصب وتجر وتجزم، ولكن توجد قواعد في عرف اللغة يتم على أساسها الرفع والنصب والجر والجزم، فيقال له: وهل القواعد إلا مبنية على وجود العوامل؟ فالمتكلم يرفع الفاعل وفق قاعدة تقول: يرفع الفاعل لأنه اسم أسند إلى فعل مقدم عليه، أي بعد عامل هو سبب رفعه.
وسنناقش تمام حسان في الحديث عن نظريته تضافر القرائن وموازنتها مع نظرية العامل فيما بعد.
ومن الذين دعوا إلى إلغاء نظرية العامل محمد عيد في كتابه أصول النحو حيث يقول:
( فالحركات والحروف التي ادعي أنها أثر العامل في العربية هي من تأثير القيم الخلافية بين وظائف الكلمات في الجمل، حيث تتضح من علاقات الكلمات كل منها بالأخرى بتأثير السياق، فليس هناك عامل ولا معمول، بل كلمات تختلف في وظائفها في السياق، ويعبر عن اختلافها بالحركات والحروف وترتيب الكلمات وغيرها من القرائن اللفظية والمعنوية )([71]).
وأقول: إن العلاقة أو التعليق لب نظرية العامل، فبين العوامل والمعمولات علاقات تنتج عنها القيم الخلافية في الوظائف النحوية، فتكون علامات الإعراب من ضمن القرائن التي تحدد هذه الوظائف وما بينها من اختلاف في سبيل تأدية المعنى العام للتركيب المفيد.. فالكلام في نظرية العامل مؤلف من عوامل ومعمولات بينها علاقات ولها مقتضيات، تجعل المتكلم يرفع وينصب، ويقدم ويؤخر، ويذكر ويؤنث، ويفرد ويثنى ويجمع ..فلم هذا التهرب من الإقرار بوجود العوامل ومقتضياتها؟
وممن دافع عن نظرية العامل عباس محمود العقاد وعلي النجدي ناصف الذي نقد دعوة ابن مضاء، ورأى أنه لم يكن يصدر في رده على النحويين عن دعوة لغوية صحيحة قائمة على ملاحظة اللغة وتناول النصوص بل كان يصدر في ذلك عن نزعة أهل الظاهر([72]).
وقد بحث محمد حماسة الإعراب ونظرية العامل في كتابه العلامة الإعرابية، وبعد عرض ما قيل فيها قرر أن العامل هو المسؤول عما أصاب النحو العربي من تعقيد , ودعا إلى الأخذ بنظرية تمام حسان التي سماها الأخير نظرية تضافر القرائن ([73]).
أما أحمد سليمان ياقوت فنقد ابن مضاء، كما نقد إبراهيم مصطفى، ونقد أيضا تمام حسان في نظريته، واختار ما ذهب إليه عباس حسن في كتابه اللغة والنحو بين القديم والحديث حيث يقول عباس:
(وربما اقتضانا الإنصاف وحب التيسير أن نميل إلى جانب نظرية العامل بنوعيه المعنوي واللفظي، وننصرف عن العامل بمعنى المتكلم.... فوجود هذا العامل يسهل على المتكلم والكاتب الاهتداء إلى الحركة المطلوبة والضبط الصحيح فيما يقع بعدهما، وكأن العامل أمارة قاطعة على المطلوب ورائد لا يضلل ... إنما الضرر كل الضرر أن نسبغ على هذا العامل المصنوع ألوانا من القوة وصنوفا من المزايا تجعله يتحكم بغير حق في المتكلم) ([74])
والحق أن ما ذكره النحويون من قوة العامل وضعفه مأخوذ بحكم الاستقراء لكلام العرب الفصحاء ، وليس تحكما منهم رحمهم الله ، ولكن بعضهم غالى في بعض الأصول التي توصلوا إليها لنظرية العامل وجعلوها مقياسا للخطأ والصواب مع وجود نصوص لغوية فصيحة تناقضها، فهذه الأصول تطرح ولا يلتفت إلى ما يحكم على النصوص الفصيحة بالخطأ.
أما أستاذنا فخر الدين قباوة فلم ينكر العامل وإنما أطلق على نظرية العامل عند سيبويه وغيره النظرية اللفظية، وذهب إلى أنها قاصرة عن تفسير كثير من الظواهر، فلو كان العمل للفظ لما اختلف عمل (إن) المخففة مثلا فهي قد تكون شرطية ، وقد تكون نافية، وقد تكون مخففه من (إن) المشددة ، وكذلك الفعل (ضرب) مثلا يأتي في الكلام متعديا وغير متعد، يقال: ضرب القلب وضرب الزمان وضرب زيد في الماء وضربوا الدرهم ، إلى غير ذلك ، ولو كان العمل للفظ وحده لما تغير العمل([75]) .
ثم عرض نظريات أطلق عليها أسماء مستوحاة من مضمونها كالنظرية المعنوية ونظرية التعليق والنظرية الصوتية والنظرية الخلافية والنظرية الإنسانية والنظرية الإلهية والنظرية الاجتماعية..
وخلص بعد ذلك إلى نظريته التي سماها نظرية الاقتضاء، وهي بحسب ما ذكر يفسرها قول ابن يعيش: ألا ترى أن الضرب والقتل يقتضيان مضروبا ومقتولا؟ ... وكل واحد من أفعال الحواس يقتضي مفعولا مما تقتضيه تلك الحاسة، فالبصر يقتضي مبصَرا، والشم يقتضي مشموما، والسمع يقتضي مسموعا) ثم قال فخر الدين: (يضاف إلى ذلك ما يكون من زمان ومكان وسبب وغاية وآلة ومصاحبة وبيان)([76]) . يشير إلى اقتضاء الفعل للمفعول فيه والمفعول له والمفعول معه والمفعول المطلق وغير ذلك من المنصوبات.
ويقول شارحا نظريته:
عندما يرسل المتكلم أحد العناصر العاملة تكون مقتضياته حاضرة في أجهزة التركيب لديه، فتنفتح الدارة المرسومة في ذهنه تستدعي الوظائف والعلامات المحققة لحاجاتها، حتى تستوعب العبارة جميع المعمولات.) ([77])
أرى أن ما دعا إليه أستاذي فخر الدين لا يختلف عن نظرية العامل التي فهمتها من كتب النحو التراثية، فالعامل يقتضي معمولا على وجه مخصوص بحسب معناه اللغوي الحقيقي أو المجازي، ومقتضيات العوامل ليست محصورة في المعمولات وعلامات الإعراب لهذه المعمولات، وإنما تتسع لتشمل انتماء المعمول للاسمية أو الفعلية، وما هو عليه من الجمود أو الاشتقاق، وما يجب عليه أن يكون من حيث التقديم والتأخير مع العامل أو مع بقية المعمولات.
وإذا كان العامل لا ينفك عن المقتضيات فهو الأصل الذي يجب أن تنسب إليه اسم النظرية، فيقال نظرية العامل، ولا داعي لما يسمى بنظرية الاقتضاء، لأنها تمثل قسما كبيرا من نظرية العامل بمفهومه الواسع الذي لا ينفك عن مقتضيات من المعمولات ومن العلامات ومن الترتيب والمطابقة ومن هيئات تصريفية .
وأرى أن تسمية فخر الدين قباوة مفهوم العامل عند سيبويه وغيره من النحويين بالنظرية اللفظية ليست صحيحة،  فمفهوم العامل أوسع بكثير مما ذكر، وردُّه بورود اللفظ الواحد على عدة وجوه لا يصح لأنه يلغي الدلالة اللغوية للعامل وأثر هذه الدلالة في اقتضائه لمعمولاته على أوجه مخصوصة.
نخلص من هذا كله إلى أن الذين دعوا إلى إلغاء نظرية العامل إما أنهم لم يفهموا نظرية العامل وما لهذا العامل من مقتضيات، فظنوا أن مهمة العامل منحصرة في الأثر الإعرابي، وإما أنهم رأوا أن ما لديهم من تفسير لاختلاف الوظائف النحوية للكلمات في الجملة أفضل من التفسير الذي يقدمه نظرية العامل من دون أدلة مقنعة، لذلك لم تكتب لمحاولاتهم إلغاء نظرية العامل النجاح.




الفصل السادس
نظرية تضافر القرائن
بعد أن بينت نظرية العامل في التراث النحوي وما وجه إليها من نقد في القديم والحديث أعرض نظرية تضافر القرائن التي دعا إلى تبنّيها بديلاَ عن نظرية العامل تمام حسان في كتباه(اللغة العربية معناها ومبناها)
يرى تمام حسان اللغة العربية مكونة من ثلاثة أنظمة: النظام الصوتي والنظام النحوي والنظام الصرفي، مع قائمة من الكلمات المعجمية التي تكون معيناً صامتاً للأنظمة الثلاثة. ([78])
والذي يهمنا عرضه هنا هو النظام النحوي مع ما يحتاج إليه من قوانين النظام الصرفي أو الصوتي فقد ذكر تمام حسان أن النظام النحوي مبني على الأسس الآتية:
1-       طائفة من المعاني النحوية العامة التي يسمونها معاني الجمل أو الأساليب يقصد (أساليب الخبر والإنشاء)
2-       مجموعة من المعاني النحوية الخاصة أو معاني الأبواب المفردة كالفاعلية والمفعولية والإضافة
3-       مجموعة من العلاقات التي تربط بين المعاني الخاصة حتى تكون صالحة عند تركيبها لبيان المراد منها، كعلاقة الإسناد والتخصيص والنسبة والتبعية.
4-       ما يقدمه علما الأصوات والصرف لعلم النحو من قرائن صوتية أو صرفية كالحركات والحروف ومباني التقسيم ومباني التصريف، يعني نوع الكلمة، وما تتطلبه من علامات إعراب وبناء وعلامات إضمار أو عدد أو تذكير أو تأنيث.
5-       القيم الخلافية أو المقابلات بين أحد أفراد كل عنصر مما سبق وبين بقية أفراده.([79])
ولبيان ارتباط هذه الأسس ضرب لنا مثالاً بإعراب: ضرب زيدٌ عمراً
ضَرَبَ: فعل ماض، عرف ذلك بقرينة الصيغة.
زيدٌ: فاعل، عرف ذلك بالآتي:
-   قرينة الصيغة، لأنه من أبنية الأسماء.
-   قرينة العلامة الإعرابية، لأنه مرفوع.
-   قرينة الرتبة، لأنه جاء بعد الفعل، والرتبة محفوظة.
-   قرينة الإسناد، لأن الفعل مسند إلى هذا الاسم.
-   قرينة المطابقة، حيث جاء الفعل بدون علامة تأنيث.
عمراً: مفعول به عرف ذلك بالآتي:
-   قرينة الصيغة، لأنه من أبنية الأسماء.
-   قرينة العلامة الإعرابية، لأنه منصوب.
-   قرينة التعليق، لأنه الفعل ضرب متعدٍّ.
-   قرينة الرتبة، لأنه جاء بعد الفاعل، وهي رتبة غير محفوظة.
- ثم ذكر أنه يمكن إدراك المعاني الوظيفية للكلمات بدون أن يكون لها معنى معجمي، وجاء ببيت مصنوع من كلمات لا معنى لها وهو:
قاصَ التّجينُ شحالَه بتريسه          الفاخي فلم يستفِ بطاسية البرن
وأعرب البيت:
قاص: فعل ماض.
التجين: فاعل.
شحاله: مفعول به والهاء مضاف إليه.
بتريسه: جار ومجرور.
الفاخي:صفة.
لم: جازمة، ويستف: فعل مضارع مجزوم وعلامة الجزم حذف حرف العلة.
بطاسية: جار ومجرور.
البرن: مضاف إليه.
ثم قال بعد ذلك:
ولقد أكثر النحاة الكلام عن العامل باعتباره تفسيراً للعلاقات النحوية أو بعبارة أخرى: باعتباره مناط التعليق، وجعلوه تفسيراً لاختلاف العلامات الإعرابية، وبنوا على القول به فكرتي التقدير والمحل الإعرابي، وتناول بعض النحاة هذا الفهم لطبيعة العلاقات السياقية بالنقد و التنفيذ والتجريح ولكنه بعد أن أبانها بالحجج المنطقية لم يأت بتفسير مقبول لاختلاف العلامات الإعرابية باختلاف المعاني النحوية، ولم يقم مقام العامل فهما آخر لهذه العلاقات غير قوله: إن العامل هو المتكلم، فجعل اللغة بذلك أمراً فردياً يتوقف على اختبار المتكلم ونفى عنها الطابع العرفي الاجتماعي الذي هو أخص خصائصها) ([80])
ويمضي تمام حسان قائلاً:
ولإبراهيم مصطفى محاولة مشابهة لتفسير اختلاف العلامات الإعرابية، قال فيها: إن الحركات ذات معانِ محددة فالضمة علم الإسناد والكسرة علم الإضافة والفتحة علم الخفة، ولكنه اكتفى بهذا الفهم المبهم القاصر لطبيعة هذه الحركات، وهو فهم يبدو  قصوره وإبهامه إذا وضعناه في ضوء ما ذكرنا منذ قليل عندما ذكرنا القرائن المختلفة التي أعانتنا على إعراب(ضربَ زيدٌ عمراً) حيث رأينا أن العلامة الإعرابية ليست أكثر من واحدة من قرائن كثيرة يتوقف عليها فهم الإعراب الصحيح) ([81])
وبعد ذلك انتقل لعرض محاولة عبد القاهر لتفسير العلاقات السياقية وعدّها أذكى محاولة، فشرح النظم عند عبد القاهر، ومعنى البناء، ومعنى الترتيب، ومعنى التعليق، وهو كما زعم أخطر شيء تكلم فيه عبد القاهر على الإطلاق وهو في نظره: إنشاء العلاقات بين المعاني النحوية بواسطة القرائن اللفظية والمعنوية والحالية. ([82])
وقد أعجب بقضية التعليق ،لذلك رأى تمام حسان أن التعليق هو الفكرة المركزية في  النحو العربي، وأن فهم التعليق على وجهه كافٍ وحده للقضاء على خرافة العمل النحوي والعوامل النحوية، لأن التعليق يحدد بواسطة القرائن معاني الأبواب السياقية ويفسر العلاقات بينها على صورة أوفى وأفضل وأكثر نفعاً) ([83])
ولأن التعليق لم يكن مشروحاً عند عبد القاهر بصورة واضحة، فقد رأى تمام حسان أن يدرس التعليق تحت عنوانين: العلاقات السياقية، والقرائن اللفظية ([84])، ولأن العلاقات السياقية متعلقة بالمعاني لذلك كان التعليق يعتمد على القرائن المعنوية والقرائن اللفظية، وبتضافر هذه القرائن يتم تحديد المعاني النحوية والعلاقات بينها.
ثم شرح القرائن المعنوية، وهي الإسناد والتخصيص وما يتبعها من معانِ فرعية بحيث شملت كل المفعولات والحال والتمييز والمستثنى، والنسبة وما يتبعها من معانٍ فرعية هي النعت والعطف والتوكيد والإبدال.
أما القرائن اللفظية عنده فهي: العلامة الإعرابية والرتبة والصيغة والمطابقة والربط والتضام والأداة والنغمة. ([85])
وسأقف عند حديثه عن العلامة الإعرابية حيث نقد تمام النحويين القائلين بنظرية العامل، فقال:
(لقد كانت العلامة الإعرابية أوفر القرائن حظاً من اهتمام النحاة،  فجعلوا الإعراب نظرية كاملة، سموها نظرية العامل، وتكلموا فيها عن الحركات ودلالاتها والحروف ونيابتها عن الحركات، ثم تكلموا عن الإعراب الظاهر والإعراب المقدر والمحل الإعرابي.
ولا أكاد أمل ترديد القول: إن العلامة الإعرابية بمفردها لا تعين على تحديد المعنى، فلا قيمة لها بدون ما أسلفت القول فيه تحت اسم "تضافر القرائن" وهذا القول صادق على كل قرينة أخرى، وبهذا يتضح أن العامل النحوي وكل ما أثير حوله من ضجة لم يكن أكثر من مبالغة أدى إليها النظر السطحي والخضوع لتقليد السلف والأخذ بأقوالهم على علاتها.) ([86]) .
أكتفي بهذا العرض لنظرية تضافر القرائن عند تمام حسان، وهي كما يرى تغني عن العوامل التي هي بزعمه عند النحويين تهدف إلى إيضاح قرينة لفظية واحدة هي العلامة الإعرابية، وهي قاصرة عن تفسير المعاني النحوية لأن المعربات التي تظهر عليها الحركات أقل بكثير جداً من مجموع ما يمكن وروده في السياق من الكلمات، ولأن الحركة الواحدة تدل على أكثر من باب واحد، ولذلك كان عمل النحويين ببناء نحوهم كله على العلامة الإعرابية يتسم بكثير من المبالغة وعدم التمحيص.([87])
وفائدة نظرية تضافر القرائن بحسب زعمه أنها تنفي عن النحو العربي كل تفسير ظني أو منطقي، وكل جدل حول الأصالة والفرعية في العمل وكذلك القوة والضعف وما يتبع ذلك من تعليلات.
بعد أن عرضت نظرية تضافر القرائن أبدأ في الإجابة عن عدة أسئلة تثيرها هذه النظرية وما ورد على لسان صاحبها من أقوال تصف النحويين بأوصاف لا يرضى هو أن يصفه بها أحد.
1-                هل بنى النحويون نحوهم كله على العلامة الإعرابية وحدها؟
2-                هل العوامل عند النحويين لتفسير العلامة الإعرابية وحدها؟
3-                هل القرائن التي ذكرها معنوية كانت أم لفظية كانت غائبة عن النحويين؟
4-                وهل المعربات أقل بكثير من المبنيات وما لا تظهر عليه علامات الإعراب؟
لنرجع إلى واقع كتب النحو لنقف على إجابات هذه الأسئلة.
إن حديث النحويين عن علامات الإعراب لا يتجاوز بيان نوعها وأنها أثر للعوامل، وذلك في المقدمات التي يقدمون بها كتبهم عند بيان المبني والمعرب، وهذا واضح عند أدنى تأمل لأي كتاب نحوي.
أما ربطهم بين العامل والعلامة الإعرابية فلا يعدو أيضاً كونه جزءاً يسيراً في بداية الأبواب النحوية كبيان أن العامل في المبتدأ هو الابتداء، وأن العامل في الفاعل هو الفعل وما يشبه الفعل، وأن العامل في المفعول به هو الفعل المتعدي، فالحديث عن العامل وأثره جزء يسير إذا قيس بما يحويه الباب النحوي من مقتضيات العوامل في معمولاتها غير العلامة الإعرابية، وهذا أيضاً واضح عند تأمّل أي باب من أبواب النحو في أي مؤلَّف من المؤلفات النحوية.
أما عن القرائن التي أتى تمام حسان لها بتسميات جديدة فلم تكن غائبة عن النحويين، وهي مذكورة في كتبهم بدون هذه الاصطلاحات، ولنأخذ مثلاً باب الفاعل، فمن مقتضيات الفعل في الفاعل أن يكون اسماً وهذا ما يسميه صاحب نظرية تضافر القرائن قرينة الصيغة، لكونه منتمياً لمبنى التقسيمات لبنية الكلمات، ومن المقتضيات أيضاً أن يكون الفعل مسنداً إلى هذا الاسم، وهذا ما يسميه تمام حسان بقرينة الإسناد وهي قرينة معنوية، ومن المقتضيات التي يذكرها النحويون أن يكون هذا الاسم مؤخراً عن الفعل وهذا ما يسميه تمام حسان قرينة الرتبة وهي قرينة لفظية، ومن المقتضيات أنه إذا كان هذا الاسم مؤنثاً حقيقياً غير مفصول عن الفعل أن تلحق بالفعل علامة تأنيث وهذه قرينة المطابقة عند تمام حسان وتشمل أيضاً مقتضى أن يكون الفعل للمفرد الغائب إن كان الفاعل مفرداً أو مثنى أو جمعا، فكل المقتضيات التي ذكرها تمام حسان وسماها قرائن مذكورة في كتب النحو بتفصيل، ولكن لم يسمها النحويون بهذه التسميات التي ذكرها تمام حسان تحت اسم القرائن.
أعود إلى مثاله الإعرابي (ضربَ زيدٌ عمراً) وما ذكره من قرائن لتحديد الفاعل الذي هو (زيد)، فقد ذكر سبع قرائن: قرينة الصيغة لانتمائه لمبنى الاسم وقرينة العلامة الإعرابية لأنه مرفوع وقرينة الإسناد أو التعليق وقرينة الرتبة، وقرينة الترتيب أي لزوم الرتبة، وقرينة المطابقة وهي أن الفعل مسند كأنه مسند للمفرد الغائب.([88])
ولنوازن هذا التعريف بتعريف ابن مالك للفاعل:
هو المسند إليه بفعل أو مضمن معناه مقدم فارغ غير مصوغ للمفعول وهو مرفوع بالمسند.([89])
وإنما لم يذكر ابن مالك قرينة الاسمية في التعريف ليشمل المسند الاسم الصريح وما هو في تأويل الاسم من نحو (أن) و (ما) المصدريتين مع الفعل، فذكر قرينة التعليق التي تبين علاقة الإسناد، وذكر قرينة صيغة الفعل المبني للفاعل، وذكر قرينة الرتبة والترتب أي وجوب أن يكون الفاعل بعد الفعل، وذكر قرينة العلامة الإعرابية وهي الرفع، أما قرينة المطابقة في العدد والتذكير والتأنيث فذكرها بعد الحد، ومثل هذا يصدق على كل الأبواب النحوية التي ذكرها النحويون في كتبهم، حيث لا يشكل الحديث عن العامل وأثره أي الرفع أو النصب أو الجر إلا جزءاً يسيراً من مقتضيات كثيرة تقتضيها العوامل في معمولاتها.
أما دعوى أن المعربات أقل بكثير مما لا تظهر عليها علامات الإعراب فغير صحيحة بل أكثر الأسماء في اللغة معربة وتظهر عليها علامات الإعراب.
نخلص من هذا إلى أن تمام حسان لم يأت بجديد إلا بأن سمّى مقتضيات العامل قرائن وجعل لكل قرينة اسما، فهو عمل تصنيفي لا غير.




الفصل السابع
تقويم الموازنة بين نظرية العامل ونظرية تضافر القرائن

بعد أن عرضت نظرية العامل وما وجه إليها من نقد قديماً وحديثاً وبعد أن عرضت نظرية تضافر القرائن وبينت أنها في الحقيقة لم تأتِ بجديد سوى التسميات والاصطلاحات التي كانت مفهوماتها معروفة وملحوظة في كتب النحويين الذين اعتمدوا في دراساتهم على نظرية العامل بعد هذا أريد أن أبين القيمة العلمية لهذه الدراسة التي هدفت إلى الموازنة بين النظريتين ولكني قبل ذلك سأوجز الحديث عن الخطوط الأسّية في هذه الموازنة فأقول:
إن النحويين جميعاً متفقون على مفهوم العامل النحوي ولا يوجد خلاف بينهم إلا ما كان من قطرب وابن مضاء، وقد بينّا تهافت مذهبيهما في قضية علامات الإعراب عند قطرب وقضية العامل عند ابن مضاء الذي حكم على ظاهر بعض العبارات النحوية التي تنسب العمل للعوامل اللفظية أو المعنوية، ولم يفهم مراد النحويين، وكان رده مبنياً على مذهبه العقدي ولم يكن مبنياً على الدرس اللغوي، والذين تلقوا دعوته في العصر الحديث وأيدوا حججه لم يختلفوا عنه في الخطأ في فهم قصد النحويين من العوامل، والذين عرفوا خطأ ابن مضاء منهم من لم يدرك ما للعوامل من مقتضيات فظل حكمه على النحويين قاسياً.
وصاحب نظرية تضافر القرائن أيد ابن مضاء في نقده لنظرية العامل، ولكنه لم يرتضِ البديل الذي طرحه، وهذا عندي دليل على أنه لم يفهم العوامل وما تقتضيه من أمور في معمولاتها، مع أن المتأمل لما جاء به  في نظريته يجد إفادته البينة من نظرية العامل ومقتضياتها المفصلة في الأبواب النحوية، فالنظام النحوي الذي بين أسسه ملحوظ في كتب النحو وإن لم يكن بنفس التنظيم والتبويب الذي ذكره صاحب النظرية.
لنعد إلى الأسس التي ينبني عليها النظام النحوي عند تمام حسان لنوازنها بما في كتب النحو:
الأساس الأول: طائفة من المعاني النحوية العامة التي يسمونها معاني الجمل أو الأساليب.
هذا الأساس نجده متفرقاً في مواضع متعددة في كتب النحو فأسلوب الشرط له باب خاص وأسلوب الاستفهام موزع على عدة أبواب، فأسماء الاستفهام نجدها في المبنيات وحروف الاستفهام نجدها في باب الحروف وفي أبواب نحوية كثيرة كباب الاشتغال وباب المبتدأ والخبر وباب العطف ولكم الاستفهامية مع الخبرية باب مستقل، ومثل ذلك بقية الأساليب تجدها مبثوثة في كتب النحويين المؤلفة على أساس نظرية العامل، وذلك مثل قول سيبويه:
هذا باب ما يختار فيه النصب وليس قبله منصوب بني عليه الفعل، وهو باب الاستفهام، وذلك أن من الحروف حروفاً لا يذكر بعدها إلا الفعل ولا يكون الذي يليها غيره مظهراً أو مضمراً.
فمما لا يليه الفعل إلا مظهراً: قد، و سوف، و لمّا، و نحوهن .. وأما ما يجوز فيه الفعل مضمراً ومظهراً فهلا ولولا ولوما وألا..
وحروف الاستفهام كذلك لا يليها إلا الفعل إلا أنهم قد توسعوا فيها فابتدؤوا بعدها بالأسماء. ([90])
الأساس الثاني: مجموعة من المعاني النحوية الخاصة أو معاني الأبواب المفردة كالفاعلية والمفعولية والإضافة.
وهذه المعاني مرتبطة بالعامل ارتباطاً وثيقاً وهي المعاني المقتضية للإعراب التي تحدث بالعوامل، وقد خصص الإسفراييني قسماً خاصاً من كتابه لباب الإعراب للمقتضي للإعراب وتحدث عن هذه المعاني الثلاث.
والأساس الثالث: مجموعة من العلاقات التي تربط بين المعاني الخاصة حتى تكون صالحة عند التركيب لبيان المراد منها كعلاقة الإسناد والتخصيص والنسبة والتبعية.
هذه العلاقات من أهم مقتضيات العوامل فالفعل يقتضي مسنداً إليه يرتبط به بعلاقة الإسناد ويرتبط الفعل المتعدي بمفعوله عن طريق علاقة التخصيص، فالتخصيص من مقتضيات الفعل المتعدي وعلاقة النسبة من مقتضيات المضاف لكي يرتبط بالمضاف إليه، وكذلك علاقة التبعية من مقتضيات التابع ليتعلق بالمتبوع، ويتعلق كلاهما بالعامل.
والأساس الرابع: ما يقدمه علما الصوتيات والصرف لعلم النحو من قرائن صوتية أو صرفية كالحركات و الحروف ومباني التقسيم ومباني التصريف..
وهذه القرائن كلها من مقتضيات العوامل، فالفعل يقتضي أن يكون فاعله مرفوعاً، والرفع يقتضي وجود علامة، وتكون علامة الرفع الضمة أو الألف في المثنى أو الواو في جمع المذكر والأسماء الستة، والفعل يقتضي أن يكون الحال في الغالب صفة مشتقة وهكذا، فكل ما سماه تمام حسان قرائن لفظية ومعنوية لا تخرج عن كونها مقتضيات للعوامل.
يبقى الأساس الخامس وهو القيم الخلافية أو المقابلات بين أحد أفراد كل عنصر مما سبق وبين بقية أفراده، وهذا ما لا نقره عليه فقد ضرب لنا مثالاً على ذلك بالفرق بين المنصوب على الاختصاص والمرفوع على الخبر في نحو:
نحن العربُ نكرم الضيف
ونحن العربَ نكرم الضيف
قال: (ولو اتحد المعنى لاتحد المبنى، فأصبحت الحركة واحدة فيهما ولكن إرادة المخالفة بينهما كانت قرينة معنوية تتضافر مع اختلاف الحركة لبيان أن هذا خبر وهذا مختص.) ([91])
فقد جعل نصب الاسم المنصوب على الاختصاص من قبيل النصب على الخلاف أي لكي يخالف معنى الخبر.
ولا نوافقه على هذا الاجتهاد فيما يخص نفي وجود العامل، فالمثال الأول لا يقال إلا في معرض المدح والثناء وتكون الجملة بعد (نحن العرب) حالية لا استئنافية كما ذهب إليه تمام حسان، وهذا الأسلوب قد نص سيبويه أنه لا يقال إلا إذا أُريد التعظيم والمدح فلا يقال: هو زيد منطلقاً، وإنما يقال: هو زيدٌ كريماً أو شجاعاً، ([92]) لأنه لا فائدة من أن نقول للمخاطب (نحن العربُ) إلا إذا كان لدى المخاطب اشتباه بين أن يكون المتكلمون هم العرب أو أن غيرهم هم العرب
أما في نحو المثال المذكور فليس هذا هو المقصود وإنما المقصود من ذكر العرب أن تؤكد اتصافهم بالكرم، وفي المثال الثاني أيضاً المراد الفخر والمدح للعرب فليس بين التركيبين فرق في المعنى العام وإنما في الثاني اعتراض بين المبتدأ والخبر بالعرب تعظيماً لشأنهم، وفي الأول ذكر الخبر الذي هو نفس المبتدأ ليمدح ويؤكد بجملة الحال.
نعم أُريدت المخالفة ولكن كانت المخالفة مبنية على تقدير عامل مختلف، وهذا شأن الإعراب كله فاختلاف المعاني النحوية مترتبة على اختلاف العوامل.
وقد اتخذ الكوفيون الخلاف سبباً لنصب بعض الأسماء، ولكنه مختلف عما في المثالين، وذلك في نحو: زيدٌ خلفَك، فانتصب (خلفَك) عندهم لأنه خلاف زيد، أما أن ينصب اسم في تركيب ليخالف اسما آخر مرفوعاً في تركيب مشابه بدون تقدير عامل مختلف فلا يصح.
فمثلاً يجوز أن تقول: هذا زيدٌ منطلقٌ، ويجوز أن تقول: هذا زيدٌ منطلقاً؟، فالنصب ليس لأجل المخالفة، وإنما يترتب على النصب اختلاف المعنى النحوي، فمنطلق في المثال الأول خبر، وفي المثال الثاني حال، فكان النصب لإرادة معنى الحالية، وكذلك في مسألة الاختصاص النصب لإرادة معنى الاختصاص وليس النصب بدون عامل لمجرد إرادة أن يقع الاختلاف.
وفي كلام تمام حسان نفسه ما يدل على أن الاختلاف ناشئ عن اختلاف العامل، وهو قوله (لبيان أن هذا خبر وهذا مختص) فقد رفع الخبر لأن المبتدأ يعمل فيه الرفع، ونصب المختص لأنه مفعول به لفعل محذوف تقديره (أخص) ولولا تقدير عاملين مختلفين لما كان المختص منصوباً والخبر مرفوعاً بل جاز أن يكون المختص مجروراً لتقع المخالفة أو أن يكون الخبر منصوباً والمختص مرفوعاً لتقع المخالفة.
إن الاختلاف في المعنى النحوي مبني على اختلاف العوامل التي تقتضي نوعاً معيناً من الإعراب، ولو قلنا بوجود اختلاف بدون عامل لبقي الاختلاف بلا ضابط، فالمهم أن يقع الخلاف بأي صورة كان، وإنما كان الإعراب أصلاً للتمييز بين المعاني النحوية المختلفة، فإرادة المخالفة حاصلة في كل الأبواب النحوية، فقد أريدت المخالفة بين الفاعل والمفعول به، وأريدت المخالفة بين المفعول به والمضاف إليه، وأريدت المخالفة بين خبر (كان) وخبر المبتدأ.. ولكن كل الاختلافات أو المخالفات تتبع اختلاف العوامل، ولا يوجد اختلاف في الإعراب بدون اختلاف العوامل.
وقد جعل تمام حسان اختلاف الأوجه الإعرابية في (لا تأكل السمك وتشرب اللبن) من قبيل قرينة المخالفة للتفريق بين المعاني المختلفة بدون تقدير عامل محذوف ونحن نقول إن اختلاف المعاني تابع لاختلاف العوامل المقدرة، فأنا وتمام حسان متفقان على وجود معانٍ مختلفة للتركيب باختلاف حركة الباء في (تشرب) فكلانا يرى أن الرفع في تشرب يدل على الاستئناف، والنصب يدل على النهي عن الجمع بين أكل السمك وشرب اللبن، والجزم يدل على النهي عن شرب اللبن وأكل السمك مطلقاً، ولكن الفرق بيننا أنه يرى أن هذا الاختلاف ليس بتقدير عامل، وإنما هو كان لمجرد إرادة الخلاف، وأنا أرى أنه لاختلاف العامل المقدّر ففي الرفع وقع المضارع موقع الاسم أي: وأنت تشرب اللبن فرفع، وفي حال النصب وقع المضارع بعد واو المعية التي تضمر بعدها (أن) فنصب، وفي حال الجزم أشرك المضارع بلا الناهية أي: لا تأكل السمك ولا تشرب اللبن، ولو كان ما ذهب إليه هو صحيحاً لما اختص كل وجه بمعنى معين، ولجاز أن يؤدي المجزوم معنى المنصوب وبالعكس.
وبهذا يمكن القول أن ما أتى به تمام حسان لا يختلف في جوهره عن نظرية العامل إلا في أجزاء يسيرة كمسألة القيم الخلافية وفيما عدا ذلك فإن كل القرائن اللفظية والمعنوية التي ذكرها إنما هي عند النحويين من مقتضيات العوامل، وإنما أضفى تمام حسان عليها أسماء جديدة وكأنها لم تكن ملحوظة أو معروفة عند السابقين مع استنكارنا لما وصف به من قال بنظرية العامل بالنظر السطحي والتقليد.([93])
وقبل أن أختم هذا الفصل أودّ الوقوف عند قضية أثارها تمام في نظريته وهي أن المعاني النحوية تدرك وتعرف بدون إدراك المعنى المعجمي للكلمات ذكر ذلك في كتابه مناهج البحث في اللغة ([94]) وذكرها في كتابه ( اللغة معناها ومبناها) ([95]) فقد أورد بيتاً صنعه بنفسه على بحر الكامل وأعربه بدون أن يكون لكلمات البيت أي معنى وهو:
قاص التجينُ شحاله بتريسه الفاخي فلم يستفِ بطاسية البرن
فأول ما يؤخذ عليه أنه استعمل أدوات وضمائر لها معانِ ودلالات معجمية فإدخال (ال) على (تجين) دل على إمكانية أن يكون اسماً وكذلك إضافة (شحال) للهاء واستعمال (لم)
وأما عن إعرابه للبيت فيقال له:
كيف حكمت على (قاص) بأنه فعل ماض وأنت لا تعرف معناه، والفعل يجب أن يدل على حدث مقترن بزمان فمن أخبرك أن هذا اللفظ يدل على حدث مقترن بزمان؟ ألا يمكن أن يكون اسم فعل، أو اسم صوت، أو فعل أمر من (قاصى) وبعده كلام مُستأنف؟
ومن أخبرك أن (التجين) فاعل وأنت لا تعرف معناه وكونه صالحاً للفاعلية، لماذا لا يكون مبتدأ وما قبله اسم صوت وخبره بتريسه و(شحاله) اعتراض بين المبتدأ والخبر كما تقول زيدٌ- ويله – بداره.
ومن أخبرك أن (شحاله) مفعول به وأنت لا تعلم معنى (قاص) وأنه يتطلب مفعولاً.. ؟
لهذا فلا يمكن أن نعرف المعاني النحوية للكلمات في الجملة على وجه الدقة بدون معرفتنا للمعاني المعجمية لها، والمعنى المعجمي يحدد كثيرا من مقتضيات العامل.


الخاتمة
يمكنني أن أوجز نتائج هذا البحث في النقاط الآتية:
1 – مفهوم العامل أوسع بكثير مما جاء في تحديده عن متأخري النحويين، لأن التحديد لم يدخل فيه كل مقتضيات العامل.
2 – أخذ كثير من الباحثين قديما وحديثا ظاهر عبارة النحويين عن العامل، ولم يضموا إليها أحوال المعمولات خارج دائرة الإعراب، فكان منهم قصور في البحث، تبعه قصور في الفهم، تبعه خطأ في الحكم وتعد على فهم النحويين السابقين بنسبته للتقليد والسطحية .
3 – لا قيمة لدعوة ابن مضاء في الدرس النحوي، لأنه لم يصدر في نقده عن منهج لغوي، وإنما حاسب النحويين على ظاهر عبارتهم، ولم يفهم مراد النحويين بالعامل، وتبعه في هذا بعض المحدثين، لذلك لم تكتب لدعوته ودعوتهم النجاح.
4 – كانت محاولات المحدثين بإحلال نظرياتهم محل نظرية العامل قاصرة عن بلوغ غاياتهم، إما للثغرات المنهجية فيها، أو لعدم اختلافها في المضمون عن نظرية العامل كثيرا.
5 – لا تختلف نظرية تضافر القرائن عن نظرية العامل إلا في تسميات مقتضيات العوامل بالقرائن اللفظية والمعنوية ، وبعض النظرات التي لم تكن مقنعة بعد التمحيص كمسألة القيم الخلافية.
6 – نظرية الاقتضاء ليست بديلة عن نظرية العامل، وإنما هي مفسرة لجانب الاقتضاء في نظرية العامل، لذلك تبقى نظرية العامل بما لها من أصول، وبما للعوامل من مقتضيات من المعمولات ومقتضيات فيما ينبغي أن ترد عليه المعمولات من أوجه مخصوصة في الإعراب والترتيب والمطابقة والبنية الصرفية ـ تبقى هي الأفضل في دراسة النحو وتدريسه، مع مراجعة أصولها التي ذكرها بعض النحويين وفي اللغة الفصيحة ما يخالفها.
والحمد لله أولا وآخرًا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين.
كتبه بهاء الدين عبد الوهاب عبد الرحمن.



قائمة المصادر والمراجع

-      الإسفراييني، ضوء المصباح، مخطوط مصور عن نسخة الظاهرية 4875، ومحفوظ في جامعة الإمام برقم 2039.
-      الإسفراييني تاج الدين أحمد بن محمد، لباب الإعراب، تحقيق بهاء الدين عبد الرحمن ، دار الرفاعي : الرياض، ط1 ، 1984.
-      الأفغاني، سعيد، نظرات في اللغة عند ابن حزم، دار الفكر: دمشق.(بلا تاريخ)
-      الأنباري، أبو البركات، الإنصاف في مسائل الخلاف، تحقيق:محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية الكبرى: القاهرة.(بلا تاريخ)
-      أنيس، إبراهيم، من أسرار اللغة. مكتبة الأنجلو المصرية: القاهرة(بلا تاريخ)
-      أنيس، إبراهيم، دلالة الألفاظ. مكتبة الأنجلو المصرية: القاهرة:1991.
-      التهانوي، محمد أعلى، كشاف اصطلاحات الفنون، المكتبة الإسلامية: بيروت.(بلا تاريخ)
-      ابن جني، أبو الفتح عثمان، الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، ط2، دار الهدى: بيروت.(بلا تاريخ)
-      حسان، تمام، اللغة بين المعيارية والوصفية، دار المعارف: القاهرة.(بلا تاريخ)
-      حسان، تمام، اللغة معناها ومبناها، عالم الكتب ، بيروت ط5 : 2006.
-      حسان، تمام، مناهج البحث في اللغة ، مكتبة الأنجلو المصرية: القاهرة، 1990.
-      حسن، عباس، اللغة والنحو بين القديم والحديث، دار المعارف: القاهرة.(بلا تاريخ)
-      حمزة ، مصطفى، نظرية العامل في النحو العربي، مطابع النجاح: الدار البيضاء، ط1: 2004.
-      الرضي، محمد بن الحسن، شرح الكافية، دار الكتب العلمية: بيروت. (بلا تاريخ)
-      الزبيدي،محمد بن الحسن أبو بكر، طبقات النحويين واللغويين، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف: القاهرة. (بلا تاريخ)
-      الزجاجي، أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق، الإيضاح في علل النحو، تحقيق مازن المبارك، دار النفائس: بيروت:ط4، 1982.
-      سيبويه، أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر، كتاب سيبويه، تحقيق
عبد السلام محمد هارون، ط1، مكتبة الخانجي: بالقاهرة، دار الرفاعي :الرياض. . (بلا تاريخ)
-      السيوطي، جلال الدين، الأشباه والنظائر، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية: القاهرة:1975.
-      السيوطي، جلال الدين، بغية الوعاة، تصحيح أمين الخانجي، مطبعة السعادة: القاهرة. .(بلا تاريخ)
-      الصبان، حاشية الصبان على شرح الأشموني، ط عيسى البابي الحلبي: القاهرة. .(بلا تاريخ)
-      عبد اللطيف، محمد حماسة، العلامة الإعرابية في الجملة، دار غريب: القاهرة, 2001.
-      عيد، محمد، أصول النحو العربي، عالم الكتب: بيروت. .(بلا تاريخ)
-      قباوة، فخر الدين، مشكلة العامل ونظرية الاقتضاء، ط1 ، دار الفكر: دمشق: 2003.
-      ابن مالك، جمال الدين محمد بن عبد الله، شرح التسهيل، تحقيق عبد الرحمن السيد وبدوي المختون، دار هجر: القاهرة. ط1: 1990.
المخزومي، مهدي، الخليل بن أحمد الفراهيدي، دار الزهراء: بغداد. (بلا تاريخ)
-      المرادي، الحسن بن قاسم ، الجنى الداني في حروف المعاني، تحقيق فخر الدين قباوة ومحمد نديم فاضل، دار الكتب العلمية: بيروت ط :1992.
-      مصطفى، إبراهيم، إحياء النحو، لجنة التأليف والترجمة والنشر: القاهرة. .(بلا تاريخ)
-      ابن مضاء، أحمد بن عبد الرحمن، الرد على النحاة، تحقيق شوقي ضيف، دار المعارف: القاهرة. .(بلا تاريخ)
ابن مضاء، أحمد بن عبد الرحمن، الرد على النحاة، تحقيق محمد إبراهيم البنا، ط1، دار الاعتصام: القاهرة. (بلا تاريخ)
المطرزي، ناصر الدين بن عبد السيد، المصباح في علم النحو، تحقيق عبد الحميد سيد طلب، مكتبة الشباب: القاهرة. (بلا تاريخ)
-      ياقوت، أحمد سليمان، ظاهرة الإعراب في النحو العربي، دار المعرفة الجامعية: الإسكندرية، 1993.
-      ابن يعيش، أبو البقاء يعيش بن علي، شرح المفصل، عالم الكتب: بيروت.(بلا تاريخ)












(1)  (ينظر الكتاب 1/13)
(2)  الكتاب 1/ 33.
(3)  أعني بذلك شوقي ضيف رحمه الله.
(4)  وضع تمام حسان في فهرس الكتاب عنوانا : سقوط نظرية العامل . ينظر ص 377.
(5)  المصباح للمطرزي:61.
(6)  ضوء المصباح للإسفراييني: 39 أ_ب.
(7)  ينظر في شرح الكافيه: 1-25.
(8)  شرح الكافية 1-25.
(9)  ينظر حاشية الصبان: 47-48.
(10)                شرح المفصل: 2/117.
(11)                طبقات النحويين واللغويين:11 .
(12)                الآية 10 سورة سبأ.
(13)                طبقات النحويين واللغويين:41 .
(14)                ينظر أصول النحو العربي : 239.
(15)                ينظر الخليل بن أحمد الفراهيدي لمهدي المخزومي :243.
(16)                اللغة بين المعايير الوصف لتمام حسان : 49.
(17)                ينظر مقدمة تحقيق المصباح للدكتور عبد الحميد السيد طلب :10 -11 وينظر أصول النحو العربي 237-238.
(18)                الخصائص 1 / 109-110.
(19)                السابق .
(20)                الخصائص: 1/103 .
(21)                الخصائص: 1/187 .
(22)                الخصائص: 2/20 وينظر بتفصيل 19-20 .
(23)                تنظر ص 2 من هذا البحث.
(24)                زيادة مني يقتضيها السياق.
(25)                كتاب سيبويه 1/33.
(26)                الكتاب 2/ 131.
(27)                السابق .
(28)                الكتاب 1/ 106.
(29)                الكتاب 1/ 127.
(30)                الإنصاف1/ 81، 164-165، 176، 281، 307، 396.
(31)                الإنصاف 1/262-263.
(32)                الإنصاف 1/73،2/ 556، 558، 578.
(33)                الإنصاف 1/229، 235.
(34)                الإنصاف 2/47.
(35)                الإنصاف 1/ 48،2/529.
(36)                الإنصاف 1/46
(37)                الإنصاف 1/67-68، 162.
(38)                الأشباه والنظائر 1/ 250.
(39)                شرح التسهيل 1/ 270.
(40)                السابق.
(41)                ينظر كتاب نظرية العامل 256 وما بعدها.
(42)                اللباب / 499.
(43)                ينظر اللباب 499-501.
(44)                مشكلة العامل النحوي ونظرية الاقتضاء / 121.
(45)                مشكلة العامل 145.
(46)                مشكلة العامل 164.
(47)               الإيضاح في علل النحو /70.
(48)               الإيضاح في علل النحو / 70 - 71.
(49)                السابق.
(50)                تنظر ترجمته في بغية الوعاة 139 .
(51)                الرد على النحاة 63 .
(52)                السابق 65 .
(53)                الرد على النحاة 69.
(54)                الكتاب 1/13.
(55)                الرد على النحاة 69.
(56)                الرد على النحاة 69 وينظر الخصائص 1 / 109 - 110.
(57)                الرد على النحاة 69 - 70.
(58)                الرد على النحاة 69 - 70.
(59)                السابق.
(60)                السابق.
(61)               الخصائص 1/ 109- 110.
(62)                نظرات في اللغة عند ابن حزم 34.
(63)                السابق 44-45.
(64)                دلالة الألفاظ 207، وينظر كتاب من أسرار اللغة 170 وما بعدها..
(65)                ينظر إحياء النحو 41.
(66)                إحياء النحو 42.
(67)                إحياء النحو 68 – 70.
(68)                الرد على النحاة بتحقيق شوقي ضيف 7.
(69)                اللغة بين المعيارية والوصفية 51-52.
(70)                مناهج البحث في اللغة ص 23.
(71)                أصول النحو 269..
(72)                ينظر العلامة الإعرابية في الجملة 195-196..
(73)                العلامة الإعرابية في الجملة 197-203.
(74)               اللغة والنحو بين القديم والحديث 190-191 وينظر العلامة الإعرابية في الجملة 85-86).
(75)                ينظر مشكلة العامل النحوي ونظرية الاقتضاء 69- 75.
(76)                السابق 122.
(77)               السابق 148.
(78)                ينظر اللغة معناها ومبناها 40 وما قبلها.
(79)                السابق 178.
(80)                اللغة معناها ومبناها 180 – 185.
(81)                السابق.
(82)               السابق 188.
(83)                اللغة معناها ومبناها 189.
(84)               السابق.
(85)                ينظر السابق 191- 240.
(86)                السابق 207.
(87)                ينظر السابق 231-233.
(88)                اللغة معناها ومبناها 181.
(89)                شرح التسهيل 2/205.
(90)                الكتاب 1/ 98-99.
(91)                اللغة معناها ومبناها 200.
(92)                الكتاب 2/ 79-80.
(93)                اللغة معناها ومبناها 207.
(94)               مناهج البحث في اللغة 193.
(95)                اللغة معناها ومبناها 183.