الجمعة، 1 مايو 2015

الفصل الأخير من الموازنة بين نظرية العامل ونظرية تضافر القرائن

الفصل السابع
تقويم الموازنة بين نظرية العامل ونظرية تضافر القرائن

بعد أن عرضت نظرية العامل وما وجه إليها من نقد قديماً وحديثاً وبعد أن عرضت نظرية تضافر القرائن وبينت أنها في الحقيقة لم تأتِ بجديد سوى التسميات والاصطلاحات التي كانت مفهوماتها معروفة وملحوظة في كتب النحويين الذين اعتمدوا في دراساتهم على نظرية العامل بعد هذا أريد أن أبين القيمة العلمية لهذه الدراسة التي هدفت إلى الموازنة بين النظريتين ولكني قبل ذلك سأوجز الحديث عن الخطوط الأسّية في هذه الموازنة فأقول:
إن النحويين جميعاً متفقون على مفهوم العامل النحوي ولا يوجد خلاف بينهم إلا ما كان من قطرب وابن مضاء وقد بينّا تهافت مذهبيهما في قضية علامات الإعراب عند قطرب وقضية العامل عند ابن مضاء الذي حكم على ظاهر بعض العبارات النحوية التي تنسب العمل للعوامل اللفظية أو المعنوية، ولم يفهم مراد النحويين، وكان رده مبنياً على مذهبه العقدي ولم يكن مبنياً على الدرس اللغوي، والذين تلقوا دعوته في العصر الحديث وأيدوا حججه لم يختلفوا عنه في الخطأ في فهم قصد النحويين من العوامل، والذين عرفوا خطأ ابن مضاء منهم من لم يدرك ما للعوامل من مقتضيات فظل حكمه على النحويين قاسياً.
وصاحب نظرية تضافر القرائن أيد ابن مضاء في نقده لنظرية العامل، ولكنه لم يرتضِ البديل الذي طرحه، وهذا عندي دليل على أنه لم يفهم العوامل وما تقتضيه من أمور في معمولاتها، مع أن المتأمل لما جاء به  في نظريته يجد إفادته البينة من نظرية العامل ومقتضياتها المفصلة في الأبواب النحوية، فالنظام النحوي الذي بين أسسه ملحوظ في كتاب النحو وإن لم يكن بنفس التنظيم والتبويب الذي ذكره صاحب النظرية.
لنعد إلى الأسس التي ينبني عليها النظام النحوي عند تمام حسان لنوازنها بما في كتب النحو:
الأساس الأول: طائفة من المعاني النحوية العامة التي يسمونها معاني الجمل أو الأساليب.
هذا الأساس نجده متفرقاً في مواضع متعددة في كتب النحو فأسلوب الشرط له باب خاص وأسلوب الاستفهام موزع على عدة أبواب، فأسماء الاستفهام نجدها في المبنيات وحروف الاستفهام نجدها في باب الحروف وفي أبواب نحوية كثيرة كباب الاشتغال وباب المبتدأ والخبر وباب العطف ولكم الاستفهامية مع الخبرية باب مستقل، ومثل ذلك بقية الأساليب تجدها مبثوثة في كتب النحويين المؤلفة على أساس نظرية العامل، وذلك مثل قول سيبويه:
هذا باب ما يختار فيه النصب وليس قبله منصوب بني عليه الفعل، وهو باب الاستفهام، وذلك أن من الحروف حروفاً لا يذكر بعدها إلا الفعل ولا يكون الذي يليها غيره مظهراً أو مضمراً.
فمما لا يليه الفعل إلا مظهراً: قد، و سوف، و لمّا، و نحوهن .. وأما ما يجوز فيه الفعل مضمراً ومظهراً فهلا ولولا ولوما وألا..
وحروف الاستفهام كذلك لا يليها إلا الفعل إلا أنهم قد توسعوا فيها فابتدؤوا بعدها بالأسماء. ([1])
الأساس الثاني: مجموعة من المعاني النحوية الخاصة أو معاني الأبواب المفردة كالفاعلية والمفعولية والإضافة.
وهذه المعاني مرتبطة بالعامل ارتباطاً وثيقاً وهي المعاني المقتضية للإعراب التي تحدث بالعوامل، وقد خصص الإسفراييني قسماً خاصاً من كتابه لباب الإعراب للمقتضي للإعراب وتحدث عن هذه المعاني الثلاث.
والأساس الثالث: مجموعة من العلاقات التي تربط بين المعاني الخاصة حتى تكون صالحة عند التركيب لبيان المراد منها كعلاقة الإسناد والتخصيص والنسبة والتبعية.
هذه العلاقات من أهم مقتضيات العوامل فالفعل يقتضي مسنداً إليه يرتبط به بعلاقة الإسناد ويرتبط الفعل المتعدي بمفعوله عن طريق علاقة التخصيص، فالتخصيص من مقتضيات الفعل المتعدي وعلاقة النسبة من مقتضيات المضاف لكي يرتبط بالمضاف إليه، وكذلك علاقة التبعية من مقتضيات التابع ليتعلق بالمتبوع، ويتعلق كلاهما بالعامل.
والأساس الرابع: ما يقدمه علما الصوتيات والصرف لعلم النحو من قرائن صوتية أو صرفية كالحركات و الحروف ومباني التقسيم ومباني التصريف..
وهذه القرائن كلها من مقتضيات العوامل، فالفعل يقتضي أن يكون فاعله مرفوعاً، والرفع يقتضي وجود علامة، وتكون علامة الرفع الضمة أو الألف في المثنى أو الواو في جمع المذكر والأسماء الستة، والفعل يقتضي أن يكون الحال في الغالب صفة مشتقة وهكذا، فكل ما سماه تمام حسان قرائن لفظية ومعنوية لا تخرج عن كونها مقتضيات للعوامل.
يبقى الأساس الخامس وهو القيم الخلافية أو المقابلات بين أحد أفراد كل عنصر مما سبق وبين بقية أفراده، وهذا ما لا نقره عليه فقد ضرب لنا مثالاً على ذلك بالفرق بين المنصوب على الاختصاص والمرفوع على الخبر في نحو:
نحن العربُ نكرم الضيف
ونحن العربَ نكرم الضيف
قال: (ولو اتحد المعنى لاتحد المبنى، فأصبحت الحركة واحدة فيهما ولكن إرادة المخالفة بينهما كانت قرينة معنوية تتضافر مع اختلاف الحركة لبيان أن هذا خبر وهذا مختص.) ([2])
فقد جعل نصب الاسم المنصوب على الاختصاص من قبيل النصب على الخلاف أي لكي يخالف معنى الخبر.
ولا نوافقه على هذا الاجتهاد فيما يخص نفي وجود العامل، فالمثال الأول لا يقال إلا في معرض المدح والثناء وتكون الجملة بعد (نحن العرب) حالية لا استئنافية كما ذهب إليه تمام حسان، وهذا الأسلوب قد نص سيبويه أنه لا يقال إلا إذا أُريد التعظيم والمدح فلا يقال: هو زيد منطلقاً، وإنما يقال: هو زيدٌ كريماً أو شجاعاً، ([3]) لأنه لا فائدة من أن نقول للمخاطب (نحن العربُ) إلا إذا كان لدى المخاطب اشتباه بين أن يكون المتكلمون هم العرب أو أن غيرهم هم العرب
أما في نحو المثال المذكور فليس هذا هو المقصود وإنما المقصود من ذكر العرب أن تؤكد اتصافهم بالكرم، وفي المثال الثاني أيضاً المراد الفخر والمدح للعرب فليس بين التركيبين فرق في المعنى العام وإنما في الثاني اعتراض بين المبتدأ والخبر بالعرب تعظيماً لشأنهم، وفي الأول ذكر الخبر الذي هو نفس المبتدأ ليمدح ويؤكد بجملة الحال.
نعم أُريدت المخالفة ولكن كانت المخالفة مبنية على تقدير عامل مختلف، وهذا شأن الإعراب كله فاختلاف المعاني النحوية مترتبة على اختلاف العوامل.
وقد اتخذ الكوفيون الخلاف سبباً لنصب بعض الأسماء، ولكنه مختلف عما في المثالين، وذلك في نحو: زيدٌ خلفَك، فانتصب (خلفَك) عندهم لأنه خلاف زيد، أما أن ينصب اسم في تركيب ليخالف اسما آخر مرفوعاً في تركيب مشابه بدون تقدير عامل مختلف فلا يصح.
فمثلاً يجوز أن تقول: هذا زيدٌ منطلقٌ، ويجوز أن تقول: هذا زيدٌ منطلقاً؟، فالنصب ليس لأجل المخالفة، وإنما يترتب على النصب اختلاف المعنى النحوي، فمنطلق في المثال الأول خبر، وفي المثال الثاني حال، فكان النصب لإرادة معنى الحالية، وكذلك في مسألة الاختصاص النصب لإرادة معنى الاختصاص وليس النصب بدون عامل لمجرد إرادة أن يقع الاختلاف.
وفي كلام تمام حسان نفسه ما يدل على أن الاختلاف ناشئ عن اختلاف العامل، وهو قوله (لبيان أن هذا خبر وهذا مختص) فقد رفع الخبر لأن المبتدأ يعمل فيه الرفع، ونصب المختص لأنه مفعول به لفعل محذوف تقديره (أخص) ولولا تقدير عاملين مختلفين لما كان المختص منصوباً والخبر مرفوعاً بل جاز أن يكون المختص مجروراً لتقع المخالفة أو أن يكون الخبر منصوباً والمختص مرفوعاً لتقع المخالفة.
إن الاختلاف في المعنى النحوي مبني على اختلاف العوامل التي تقتضي نوعاً معيناً من الإعراب، ولو قلنا بوجود اختلاف بدون عامل لبقي الاختلاف بلا ضابط، فالمهم أن يقع الخلاف بأي صورة كان، وإنما كان الإعراب أصلاً للتمييز بين المعاني النحوية المختلفة، فإرادة المخالفة حاصلة في كل الأبواب النحوية، فقد أريدت المخالفة بين الفاعل والمفعول به، وأريدت المخالفة بين المفعول به والمضاف إليه، وأريدت المخالفة بين خبر (كان) وخبر المبتدأ.. ولكن كل الاختلافات أو المحالفات تتبع اختلاف العوامل، ولا يوجد اختلاف في الإعراب بدون اختلاف العوامل.
وقد جعل تمام حسان اختلاف الأوجه الإعرابية في (لا تأكل السمك وتشرب اللبن) من قبيل قرينة المخالفة للتفريق بين المعاني المختلفة بدون تقدير عامل محذوف ونحن نقول إن اختلاف المعاني تابع لاختلاف العوامل المقدرة، فأنا وتمام حسان متفقان على وجود معانٍ مختلفة للتركيب باختلاف حركة الباء في (تشرب) فكلانا يرى أن الرفع في تشرب يدل على الاستئناف، والنصب يدل على النهي عن الجمع بين أكل السمك وشرب اللبن، والجزم يدل على النهي عن شرب اللبن وأكل السمك مطلقاً، ولكن الفرق بيننا أنه يرى أن هذا الاختلاف ليس بتقدير عامل، وإنما هو كان لمجرد إرادة الخلاف، وأنا أرى أنه لاختلاف العامل المقدّر ففي الرفع وقع المضارع موقع الاسم أي: وأنت تشرب اللبن فرفع، وفي حال النصب وقع المضارع بعد واو المعية التي تضمر بعدها (أن) فنصب، وفي حال الجزم أشرك المضارع بلا الناهية أي: لا تأكل السمك ولا تشرب اللبن، ولو كان ما ذهب إليه هو صحيحاً لما اختص كل وجه بمعنى معين، ولجاز أن يؤدي المجزوم معنى المنصوب وبالعكس.
وبهذا يمكن القول أن ما أتى به تمام حسان لا يختلف في جوهره عن نظرية العامل إلا في أجزاء يسيرة كمسألة القيم الخلافية وفيما عدا ذلك فإن كل القرائن اللفظية والمعنوية التي ذكرها إنما هي عند النحويين من مقتضيات العوامل، وإنما أضفى تمام حسان عليها أسماء جديدة وكأنها لم تكن ملحوظة أو معروفة عند السابقين مع استنكارنا لما وصف به من قال بنظرية العامل بالنظر السطحي والتقليد.([4]) (اللغة معناها ومبناها 207)
وقبل أن أختم هذا الفصل أودّ الوقوف عند قضية أثارها تمام في نظريته وهي أن المعاني النحوية تدرك وتعرف بدون إدراك المعنى المعجمي للكلمات ذكر ذلك في كتابه مناهج البحث في اللغة ([5]) وذكرها في كتابه ( اللغة معناها ومبناها) ([6]) فقد أورد بيتاً صنعه بنفسه على بحر الكامل وأعربه بدون أن يكون لكلمات البيت أي معنى وهو:
قاص التجينُ شحاله بتريه الفاخي فلم يستفِ بطاسية البرن
فأول ما يؤخذ عليه أنه استعمل أدوات وضمائر لها معانِ ودلالات معجمية فإدخال (ال) على (تجين) دل على إمكانية أن يكون اسماً وكذلك إضافة (شحال) للهاء واستعمال (لم)
وأما عن إعرابه للبيت فيقال له:
كيف حكمت على (قاص) بأنه فعل ماض وأنت لا تعرف معناه، والفعل يجب أن يدل على حدث مقترن بزمان فمن أخبرك أن هذا اللفظ يدل على حدث مقترن بزمان؟ ألا يمكن أن يكون اسم فعل، أو اسم صوت، أو فعل أمر من (قاص) وبعده كلام مُستأنف؟
ومن أخبرك أن (التجين) فاعل وأنت لا تعرف معناه وكونه صالحاً للفاعلية، لماذا لا يكون مبتدأ وما قبله اسم صوت وخبره بتريسه و(شحاله) اعتراض بين المبتدأ والخبر كما تقول زيدٌ- ويله – بداره.
ومن أخبرك أن (شحاله) مفعول به وأنت لا تعلم معنى (قاص) وأنه يتطلب مفعولاً.. ؟
لهذا فلا يمكن أن نعرف المعاني النحوية للكلمات في الجملة على وجه الدقة بدون معرفتنا للمعاني المعجمية لها، والمعنى المعجمي يحدد كثيرا من مقتضيات العامل.



(1)  الكتاب 1/ 98-99.
(1)  اللغة معناها ومبناها 200.
(1)  الكتاب 2/ 79-80.
(1)  اللغة معناها ومبناها 207.
(2) مناهج البحث في اللغة 193.
(3)  اللغة معناها ومبناها 183.

هناك تعليقان (2):

  1. شكرا ، أستاذي أحتاج عونك، فأنا طالب " ماجستير" من الجزائر، وأحتاج بحثك كاملا" الموازنة بين العامل والقرائن" فأين أجده بحيث أوثقه " أكاديميا" وكيف يمكنني التواصل معك؟ مع تحيات أخيك من الجزائر

    ردحذف
  2. البحث منشور في مجلة كلية اللغة العربية بالمنصورة في مصر في عدد نوفمبر 2011

    ردحذف