الاثنين، 24 أكتوبر 2011

تفسير المشكل من كلام سيبويه


 قال سيبويه :والفتح في الأفعال التي لم تجر مجرى المضارعة قولهم: ضرب، وكذلك كل بناء من الفعل كان معناه (فَعَلَ).
ولم يسكّنوا آخر (فَعَلَ) لأن فيها بعض ما في المضارعة، تقول: هذا رجل ضربنا، فتصف بها النكرة، وتكون في موضع (ضارب) إذا قلت هذا رجل ضارب. وتقول: إنْ فعل فعلت، فيكون في معنى: إن يفعل أفعل، فهي فعل كما أنّ المضارع فعل، وقد وقعت موقعها في (إن) ووقعت موقع الأسماء في الوصف كما تقع المضارعة في الوصف، فلم يسكّنوها كما لم يسكنوا من الأسماء ما ضارع المتمكن، ولا ما صيّر من المتمكن في موضع بمنزلة غير المتمكن. فالمضارع: من علُ، حرّكوه لأنهم قد يقولون من علٍ فيُجْرُونه. وأما المتمكن الذي جعل بمنزلة غير المتمكن في موضع فقولك: ابدأ بهذا أول، ويا حَكَمُ.
التفسير:
علل سيبويه بناء الماضي على السكون بكونه شبيها بالفعل المضارع الذي أعرب لمضارعته الاسم، وذلك لأن الماضي فعل مثل المضارع، ويقع موقع المضارع في وصف النكرة، كما يقع موقعه في الجمل الشرطية، والفرق بينهما أن الماضي لا تدخل عليه لام الابتداء وتدخل على المضارع، فلما كانت بينهما هذه المشابهة حركوا آخر الماضي بالفتح الذي هو أخف الحركات.
ثم ذكر لهذا الحكم المبني على المشابهة نظيرا في الأسماء، فالعرب لم تبن الأسماء المشابهة للاسم المعرب على السكون، وإن كان السكون هو الأصل في البناء، وإنما بنوها على الضم لأن الرفع أول أحوال الاسم المعرب، وضرب مثالا على الاسم المبني الذي شابه المعرب قولهم: من علُ، بالضم، حركوه بالضم ولم يسكنوا لأنه يشبه الاسم المعرب (علٍ) الذي أصله (علي) على وزن فَعِل،كـ (عم) و(شج) فهذا يعرب وتحذف ياؤه في الرفع والجر وتثبت في النصب، تقول: هذا مكان علٍ، ووصعدت مكانا عليا، ومررت بمكان علِ.
وكذلك لم يبنوا على السكون الأسماء التي تبنى بناء عارضا، كالأسماء المقتطعة عن الإضافة، والمنادى المفرد، نحو: افعل هذا أولُ، ويا زيدُ، فقد بني على الضم ولم يبن على السكون لأنها في الأصل معربة، فهي أولى بالضم من الأسماء التي ضارعت الاسم المعرب، وليست معربة في الأصل، وبناؤها على الضم كان تشبيها بالمبتدأ المرفوع لأن أول أحوال الاسم الابتداء الذي يوجب الرفع. والله أعلم

الموازنة: الفصل الأول


الفصل الأول
مفهوم العامل في التراث النحوي.
لن أتعرض للحديث عن معنى العمل والعامل في اللغة، فهو واضح لا يحتاج إلى بيان ، وإنما الذي يحتاج إلى الإيضاح معنى العامل في اصطلاح النحويين.
لا نجد في كتاب سيبويه ولا في الكتب التي تلته كالمقتضب والأصول تعريفا للعامل، وإن كان بالإمكان معرفة معناه من خلال الحديث عن علامات الإعراب، ففي نص سيبويه الذي ذكرته في المقدمة نفهم أن علامة الإعراب تختلف باختلاف العوامل الداخلة على الاسم المعرب، ولذلك عرّفه النحويون المتأخرون تعريفات مؤداها أن العامل هو ما أوجب كون الكلمة على وجه مخصوص من الإعراب. ([1])  
وقد شرح الإسفراييني هذا التعريف فقال :( اعلم أن تعلق الفعل وما أشبهه من الحروف والأسماء وغيرها بالاسم المتمكن سبب لثبوت وصف فيه ، كالفاعلية أو ما أشبهها والمفعولية أو ما جرى مجراها ، والإضافة ونحوها، وهذه معان معقولة، وتستدعي نصب علامات يستدل بها عليها فجعلوا الإعرب الذي هو الرفع والنصب والجر دلائل عليها ، وسموا تلك المعاني مقتضيات للإعراب، وسموا الأشياء التي تعلقها بالاسم المتمكن سبب لحدوث هذه المعاني العوامل... إذا عرفت هذا فقد عرفت معنى التعريف، فإن العامل بسببه يحدث المعنى المقتضي لكون آخر الكلمة على وجه مخصوص من الإعراب) ([2])
والإسفراييني يشير بالمعنى المقتضى إلى ما جاء في تعريف ابن الحاجب للعامل ، حيث قال في الكافية: والعامل ما به يتقوّم المعنى المقتضي. ([3])  
فإن معنى الفاعلية والمفعولية والإضافة  كون الكلمة عمدة أو فضلة أو مضافا إليها، وهي كالأعراض القائمة بالعمدة والفضلة والمضاف إليه بسبب توسط العامل. ([4])
يعني أن العامل سبب لتقوم المعنى المقتضي للإعراب في الاسم المعرب، والمعاني المقتضية للإعراب عند النحويين هي الفاعلية والمفعولية والإضافة وما ألحق بها ، ويرى بعضهم أن المقتضي قد يتخلف في بعض العوامل كما في حال جزم المضارع  في نحو: لم يضرب زيد ([5]) فالعامل هنا (لم) ولا يوجد بزعمهم مقتض للجزم في الفعل المضارع، وأرى أن المقتضي لا يتخلف عن العامل، وأن المقتضي للجزم هو معنى النفي على سبيل القطع، فالمعنى المقتضي لرفع المضارع هو قبوله  الحال الاستقبال، والمعنى المقتضي لنصبه هو خلوصه للاستقبال، والمعنى المقتضي للجزم هو نفيه على سبيل القطع أو طلب وقوعه على سبيل القطع أو النهي عن وقوعه على سبيل القطع. فالخلاصة أن العامل يختلف عن المعنى المقتضي للإعراب فهو سبب لقيام المعنى المقتضي بالاسم المعرب أو الفعل المعرب لذلك يقول ابن يعيش:
(فالجر إنما يكون بالإضافة وليست الإضافة هي العاملة للجر، وإنما هي المقتضية له، والمعنيّ بالمقتضي ها هنا أن القياس يقتضي هذا النوع من الإعراب، لتقع المخالفة بينه وبين إعراب الفاعل والمفعول فيتميز عنهما).([6])
ومفهوم العامل نشأ في أول وضعه على يد أبي الأسود الدؤلي وتلامذته على ما يروي الزبيدي في طبقاته، وهو قوله: (فكان أول من أصل ذلك وأعمل فكره فيه أبو الأسود ظالم بن عمرو الدؤلي ونصر بن عاصم  وعبد الرحمن بن هرمز فوضعوا للنحو أبوابا وأصلوا له أصولا، فذكروا عوامل الرفع والنصب والخفض والجزم ووصفوا باب الفاعل والمفعول والتعجب والمضاف). ([7]) 
ونجد مفهوم العامل أيضا في الروايات التي نقلت لنا اختلاف بعض العلماء الذين سبقوا سيبويه والخليل، كاختلاف عيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء في توجيه النصب في الطير من قوله تعالى (يا جبال أوبي معه والطير) ([8]) فكان عيسى يقول: هو على النداء كما في يا زيدُ والحارثَ ، وكان أبو عمرو يقول: النصب على إضمار فعل أي : وسخرنا الطير ([9]) وليس ببعيد أن يكون أبو الأسود الذي قام بتنقيط المصحف قد أعمل نكرة في مجيء الأسماء مضمومة الآخر ومفتوحة الآخر ومكسورة الآخر على نسق معين دائما فاستنتج أن رفع الفاعل يكون بورود فعل قبله ونصب المفعول كذلك وجر المضاف إليه يكون بذكر اسم قبله غير منون.. فجعل ما رآه سببا للرفع والنصب والجرّ عوامل ..
وليس بصحيح ما ذهب إليه بعض المحدثين وهو أن مفهوم العامل نشأ في النحو العربي بسبب تأثره بالمنطق الأرسطي مستدلا على ذلك بوجود فكرة التأثير والتأثر  في الفلسفة الأرسطيه ([10]) ،ففكرة التأثير التأثر يدركها العقل الإنساني المجرد بدون الاطلاع على الفلسفة الأرسطية وكذلك ليس بصحيح أن مفهوم العامل نشأ على يد الخليل([11]) لملاحظته التفاعل بين الحروف والحركات والكلمات باعتبار أنه واضع علم العروض ، لأن هذه الفكرة كانت موجودة قبل الخليل بحسب الروايات التي وصلتنا في كتب طبقات النحويين.
فمفهوم العامل نشأ من طبيعة العقل الإنساني الذي فطر على البحث  عن الأسباب ومعرفة العلل، وهو ما قرره أيضا بعض المحدثين بقوله: (ولقد كان التعليل في دراسة اللغة مسؤولا كذلك عن خلق نظرية العامل، فالفاعل مرفوع بعلة وجود الفعل، والمبتدأ مرفوع بعلة الابتداء وهلم جرا).([12])
ولم يختلف النحويون السابقون منهم واللاحقون حول مفهوم العامل الذي عرضناه ، غير أن بعض المحدثين نسب إلى ابن جني أنه خالف النحويين في نظرته للعامل، فقالوا: إن ابن جني اتجه في نظرته للعامل اتجاها يخالف سيبويه والبصريين ([13])  مستدلين بقوله: ( فأما في الحقيقة ومحصول الحديث فالعمل من الرفع والنصب والجر والجزم إنما هو للمتكلم نفسه لا لشيء غيره). ([14]) وهذا النص مجتزأ من نص طويل، لو أخذ كاملا لتبين أن نظرة ابن جني لا تختلف مطلقا عن نظرة سيبويه وغيره من النحويين من أن العامل ه وما يوجب أن تكون الكلمة على وجه مخصوص من الإعراب.
لذلك سأثبت نص ابن جني كاملا ليتبين خطأ الاعتماد على هذا الاجتزاء ، فقد قال في باب مقاييس العربية:
(ومثله اعتبارك باب الفاعل والمفعول به بأن تقول :( رفعت هذا لأنه فاعل ونصبت هذا لأنه مفعول ، فهدا اعتبار معنوي لا لفظي، ولأجله ما كانت العوامل اللفظية راجعة في الحقيقة إلى أنها معنوية ألا تراك إذا قلت : ضرب سعيدٌ جعفراً فإن (ضرب) لم تعمل في الحقيقة شيئا، وهل تحصل من قولك (ضرب) إلا على اللفظ بالضاد والراء والباء على صورة (فَعَلَ) فهذا هو الصوت، والصوت لا يجوز أن يكون منسوبا إليه الفعل .
وإنما قال النحويون: عامل لفظي وعامل معنوي ليروك أن بعض العمل يأتي مسببا عن لفظ يصحبه كـ(مررت بزيد، وليت عمرا قائم) وبعضه، يأتي عاريا من مصاحبة لفظ يتعلق به، كرفع المبتدأ بالابتداء ورفع الفعل لوقوعه موقع الاسم. هذا ظاهر الأمر وعليه صفحة القول )([15]) ثم أورد النص الذي ذكرناه قبل هذا.
 فإٍسناد العمل للألفاظ أو المعاني ليست من قبيل أنها تقوم بنفسها بعمل الرفع والنصب والجر والجزم، فذلك أمر لا يتصوره عقل، لأن الألفاظ أصوات والمعاني أمور غير محسوسة، فكيف يمكن أن تؤثر بنفسها على الحقيقة؟؟
والدليل على أن ابن جني لا يختلف عن بقية النحويين في نظرته للعامل أنه ينسب العمل للعوامل في مواضع كثيرة، كقوله مثلا في (باب تقاود السماع وتقارع  الانتزاع) : (فلو كانت التاء في (ضربتك) هي العاملة في الكاف لفسد ذلك، من قِبَل أن أصل عمل النصب إنما هو للفعل، وغيره من النواصب مُشَبَّهٌ في ذلك بالفعل ، والضمير بالإجماع أبعد شيء عن الفعل من حيث كان الفعل موغلاً في التنكير، والاسم المضمر متناه في التعريف) ([16])
وقوله:( ألا ترى أنهم لما شبّهوا الفعل باسم الفاعل فأعربوه كنفوا هذا المعنى بينهما، وأيدوه بأن شبهوا اسم الفاعل بالفعل فأعملوه ) ([17])  (الخصائص) وقوله أيضا: ( إن الظرف يعمل فيه الوهم مثلا كذا عهد إليّ أبو علي رحمه الله في هذا ، وهذا لفظه لي فيه البتة) ([18])  
فلا خلاف بين ابن جني وسيبويه وغيرهما من النحويين في مفهوم العامل على التحقيق. 



(1)  المصباح للمطرزي:61.
(2)  ضوء المصباح للإسفراييني: 39 أ_ب.
(3)  ينظر في شرح الكافيه: 1-25.
(4)  شرح الكافية 1-25.
(5)  ينظر حاشية الصبان: 47-48.
(6)  شرح المفصل: 2/117.
(7)  طبقات النحويين واللغويين:11 .
(8)  الآية 10 سورة سبأ.
(9)  طبقات النحويين واللغويين:41 .
(10)                ينظر أصول النحو العربي : 239.
(11)                ينظر الخليل بن أحمد الفراهيدي لمهدي المخزومي :243.
(12)                اللغة بين المعايير الوصف لتمام حسان : 49.
(13)                ينظر مقدمة تحقيق المصباح للدكتور عبد الحميد السيد طلب :10 -11 وينظر أصول النحو العربي 237-238.
(14)                الخصائص 1 / 109-110.
(15)                السابق .
(16)                الخصائص: 1/103 .
(17)                الخصائص: 1/187 .
(18)                الخصائص: 2/20 وينظر بتفصيل 19-20 .

الخميس، 20 أكتوبر 2011

الحمل على المعنى وعلى التوهم وعلى المحل


الحمل على المعنى والحمل على التوهم والحمل على الموضع هذه مصطلحات استعملها سيبويه ووقع لبس فيها عند كثير من الباحثين حتى جعلوها شيئا واحدا خصوه باسم: الحمل على التوهم. وليس الأمر كما ذهبوا إليه، فلكل مصطلح معناه الخاص: الحمل على المعنى:
يتخذ الحمل على المعنى عند سيبويه عدة مناح:
• الحمل على المعنى في التذكير والتأنيث أو في الإفراد والتثنية والجمع. قال ذو الرمة: مشين كما اهتزت رماح تسفهّت ... أعاليَها مرُّ الرياح النواسم كأنه قال: تسفهتها الرياح، فحمل على المعنى ولم يحمل على لفظ (مر) المذكر. وقال تعالى : " بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " ، أجرى الأول بالإفراد على لفظ الواحد (وهو محسن) والآخر على المعنى (وهم). قلت: والحمل على اللفظ مرة وعلى المعنى مرة في مثل هذين الموضعين جائز قياسا.
• والحمل على المعنى في الإعراب، ويكون في العطف وغير العطف. ففي العطف يكون الحمل على المعنى بأن يذكر كلام فيه عامل معين، ثم يعطف على هذا الكلام بمفرد مرفوع أو منصوب بعامل مقدر مأخوذ إما من لفظ العامل الأول أو من معناه، كما في الشواهد الآتية:
• قال جرير:
• جئني بمثل بني بدر لقومهم ... أو مثلَ أسرة منظور بن سيار فعطف (مثل) بالنصب وكأنه معطوف على (مثل) المجرورة بالباء، على أن محل المجرور النصب، أو على أنه معطوف على أن (مثل) الأولى منصوبة توهما، لذلك ربما جعل بعضهم هذا من قبيل الحمل على الموضع أو الحمل على التوهم، والحقيقة أنه حمل على المعنى، لأنه عندما قال: جئي بمثل بني بدر، فكأنه قال: هات مثلَ بني بدر، فنصب مثلا الثانية على تقدير فعل مرادف في المعنى للفعل جئني فهو مفعول به لفعل محذوف دل عليه المذكور، ولذلك قال سيبويه: كأنه قال: هات مثل أسرة منظور " بن سيار "
وقال آخر: بينا نحن نطلبه أتانا ... معلق وفضةٍ وزنادَ راع
فعطف زنادا بالنصب على وفضة، وهو منصوب عند سيبويه بفعل مضمر أو اسم فاعل مضمر ، وليس معطوفا على محل (وفضة) كما هو عند المتأخرين. قال سيبويه: (وتضمر له ناصبا فتقول: هذا ضارب زيد وعمرا، كأنه قال: ويضرب عمرا، أو ضارب عمرا) والقياس في مثل هذا جائز.
هذا في العطف بالنصب، وقد يعطف بالرفع كما في قوله تعالى: (ولحمِ طير مما يشتهون وحورٌ عين) عُطف (حور) على (لحم طير) بالرفع، فيقدر له رافع، وهو هنا الابتداء، أي: ولهم حور عين، لأنه لما قيل: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ. عُلم أن هذه الأشياء لهم، فعطف على المعنى أي معنى: ولهم لحم طير.. فقيل: وحورٌ عين.
وقال الآخر: بادت وغير آيهنّ مع البلى ... إلا رواكدَ جمرهن هباء
ومشججٌ أما سواء قذاله ... فبدا وغير ساره المعزاء
قال سيبويه: لأن قوله " إلا رواكد " هي في معنى الحديث: بها رواكد، فحمله على شيء لو كان عليه الأول لن ينقض الحديث. والقياس على مثل هذا جائز.
ومن الحمل على المعنى في غير العطف في الرفع قول الشاعر: تواهق رجلاها يداها ورأسه ... لها قتب خلف الحقيبة رادف رفع يديها على المعنى، لأنه لما قال تواهق رجلاها عُلم أن اليدين أيضا تواهق الرجلين، فكأنه قال: تواهق رجلاها يديها تواهق يداها رجليه، فيداها فاعل لفعل محذوف. ولا أرى القياس على مثل هذا جائزا.
وكذلك قوله: ليُبكَ يزيدُ ضارع لخصومة**ومختبط مما تطيح الطوائح
لأنه لما قال: ليُبكَ يزيدُ، عُلم أن ثَمَّ من يبكيه، فرفع ضارعا على تقدير : ليَبكِهِ ضارع. ولا أرى القياس على مثله جائزا.
ومن الحمل على المعنى في غير العطف بالنصب قوله:
قد سالم الحياتُ منه القدما ... الأفعوانَ والشجاع الشجعما
نصب الأفعوان على المعنى، قال سيبويه: فإنما نصب الأفعوان والشجاع لأنه قد علم أن القدم ههنا مسالَمة كما أنها مسالِمة، فحمل الكلام على أنها مسالِمة. يعني سيبويه أن الأفعوان نصب بفعل فاعله القدم، أي: سالمت قدمه الأفعوان. وهذا أيضا عندي مما لا يقاس عليه. وكذلك قول الشاعر:
إذا تغنى الحمام الورق هيجني ... ولو تغربت عنها أمَّ عمار نصب أم عمار بالحمل على المعنى، قال سيبويه: قال الخليل رحمه الله: لما قال هيجني، عُرف أنه قد كان ثم تذكر لتذكرة الحمام وتهييجه، فألقى ذلك الذي قد عُرف منه على أم عمار، كأنه قال: هيجني فذكرني أم عمار.
ومن ذلك أيضا قول الشاعر:
ما إن يمس الأرض إلا منكب** منه وحرف الساق، طيّ المحمل. فنصب طيّا على المعنى، لأنه لما قال : ما إن يمس الأرض عُلم أنه طيّان، فنصب طي المحمل على فعل غير يمس، كأنه قال: طوي من الجوع طيا كطي محمل السيف. والقياس على مثل هذا جائز.
* الحمل على التوهم: قال سيبويه: وسألت الخليل عن قول الأعشى:
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا ... أو تنزلون فإنّا معشر نزل فقال: الكلام هاهنا على قولك: يكون كذا أو يكون كذا، لمّا كان موضعها لو قال فيه: أتركبون لم ينقض المعنى، صار بمنزلة قولك: ولا سابق شيئاً. تفسير ذلك: أن بين الشرط والاستفهام شبها كبيرا، فأسماء الاستفهام هي أسماء الشرط، غير أن الاستفهام يطلب جوابا من المسؤول، أما الشرط فجوابه مذكور، ولذلك كأن الشاعر توهم أنه استفهم في الشطر الأول ، فكأنه قال: أتركبون؟ بدل: إن تركبوا، ولذلك عطف بالرفع على (تركبوا) وهذا مثل قول زهير:
بدا لي أني لست مدرك ما مضى ولاسابقٍ شيئا إذا كان جائيا
قال سيبويه: لّما كان الأوّل تستعمل فيه الباء ولا تغيّر المعنى، وكانت مما يلزم الأوّل نووها في الحرف الآخر، حتّى كأنّهم قد تكلّموا بها في الأوّل.
ومثل هذا قوله:
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعبٍ إلاّ ببين غرابها فالحمل على التوهم هو أن يتوهم الشاعر أنه ذكر عاملا قبل المعمول المعطوف عليه، فيعطف على المعمول بما يقتضيه العامل المتوهَّم. والأمثلة التي ذكرها سيبويه للتوهم كلها كانت في العطف. وهذا عندي لا يجوز القياس عليه. وهذا مختلف عن الحمل على الموضع.
* الحمل على الموضع: خصص سيبويه بابا للحمل على الموضع، فقال:
هذا باب ما يجري على الموضع لا على الاسم الذي قبله. ثم قال: ومما جاء من الشعر في الإجراء على الموضع قول عقيبة الأسدي:
معاوي إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا
لأن الباء دخلت على شيء لو لم تدخل عليه لم يخل بالمعنى ولم يحتج إليها وكان نصباً.
يفهم من كلام سيبويه أنه يجوز الحمل على موضع المجرور بحرف الجر الزائد، فإن كان الموضع نصبا، نصب المعطوف، وإن كان رفعا رفع المعطوف، وقد اشترط لهذا شرطا وهو أن يكون المعطوف قابلا لدخول الحرف الجر الزائد، كما في البيت، وكما في قولك: بحسبِ زيد وحسبُك درهم.
ومن الشواهد التي ذكرها سيبويه في هذا الباب:
فإن لم تجد من دونِ عدنان والداً**ودونَ معدٍ فلتزعك العواذل عطف (دون) الثانية بالنصب على الأولى لأنها زائدة، ويصح دخول من على (دون) الثانية.
ومن الحمل على الموضع عند سيبويه في غير العطف قولهم: لا أحد فيها إلا زيد، حمل زيد بالرفع على محل: لا أحد. قال سيبويه: ومما أجري على الموضع لا على ما عمل في الاسم: لا أحدَ فيها إلا عبد الله، فلا أحدَ في موضع اسم مبتدأ، وهي ههنا بمنزلة من أحدَ في ما أتاني. ألا ترى أنك تقول: ما أتاني من أحدٍ لا عبدُ الله ولا زيدٌ . والحمل على الموضع بهذه الصور جائز قياسا.


الأربعاء، 19 أكتوبر 2011

الموازنة بين نظرية العامل ونظرية تضافر القرائن في الدرس النحوي


بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم الذي علم الإنسان بالقلم علمه ما لم يعلم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأكرم، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الجمع الأعظم، أما بعد

فعندما قال سيبويه في بداية كتابه:
(هذا باب مجاري أواخر الكلم من العربية، وهي تجري على ثمانية مجار، على النصب والجر والرفع والجزم، والفتح والضم والكسر والوقف.
ثم بيّن كيف تكون صفة هذه المجاري في اللفظ بقوله: فالنصب والفتح في اللفظ ضرب واحد، والجر والكسر فيه ضرب واحد، وكذلك الرفع والضم، والجزم والوقف.)
ثم علل جعل المجاري ثمانية لا أربعا كما في اللفظ فقال:
وإنما ذكرت لك ثمانية مجار لأفرق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة لما يحدث فيه العامل _وليس شيئا منها إلا هو ويزول عنه، وبين ما يبنى عليه الحرف بناء لا يزول عنه لغير شيء أحدث ذلك فيه من العوامل التي لكل عامل منها ضرب من اللفظ في الحرف، وذلك الحرف حرف الإعراب. ([1])
عندما قال سيبويه هذه الأقوال كانت نظرية العامل قد اكتملت في الدرس النحوي، وظهرت آثارها في جميع أبواب النحو، فرتبت الأبواب النحوية في كتاب سيبويه وفي جميع لكتب النحو بعده على أساس نظرية العامل، حتى إن سيبويه خصص بعد المقدمات في كتابه وبعد شرح ما يحتمل في الشعر ــ أول باب للحديث عن العوامل القياسية، ودرجات كل منها قوة وضعفا، وهو الباب الذي قال فيه:
(باب الفاعل الذي لم يتعد فعله إلى مفعول، والمفعول الذي لم يتعد إليه فعل فاعل، ولا يتعدى فعله إلى مفعول آخر، وما يعمل من أسماء الفاعلين والمفعولين عمل الفعل الذي يتعدى إلى مفعول، وما يعمل من المصادر، وما يجري من الصفات التي لم تبلغ أن تكون في القوة كأسماء الفاعلين والمفعولين التي تجري مجرى الفعل وليس بفعل ولم يقو قوته، وما جرى من الأسماء التي ليست بأسماء الفاعلين التي ذكرت، ولا الصفات التي هي من لفظ أحداث الأسماء، وتكون لأحداثها أمثلة لما مضى ولما لم يمض ، وهي التي لم تبلغ أن تكون في القوة كأسماء الفاعلين والمفعولين....وليست لها قوة أسماء الفاعلين التي ذكرت لك، ولا هذه الصفات، كما أنه لا يقوى قوة الفعل ما جرى مجراه وليس بفعل) ([2])
انتهى كلام سيبويه الذي جعل الفعل أصلا في العمل، ويأتي بعده في القوة أسماء الفاعلين والمفعولين، ثم الصفات المشبهة بها، ثم أسماء ليست بصفات، ولكنها عملت عملها وهو يقصد كما سيتبين الاسم التام والاسم المنسوب واسم الجنس.
وهكذا نسير في الكتاب على هدي نظرية العامل، ومثله فعل المبرد في المقتضب، وابن السراج في الأصول، غير أن ابن السراج نظم الموضوعات النحوية بصورة أفضل على أساس أن الكلام مؤلف من الاسم والفعل والحرف، فكان ترتيبه مبنيا على العوامل من الأسماء ثم العوامل من الأفعال ثم العوامل من الحروف، وبشكل عام فكل كتب النحو مؤلفة وفق نظرية العامل بوجه من الوجوه، وهذا غير خاف على من له أدنى إطلاع على المؤلفات النحوية.
ولم يعترض النحويون قديما على نظرية العامل إلا ما كان من ابن مضاء القرطبي وبعض علماء الظاهرية، ولم يلتفت إلى اعتراضه جمهور النحويين إلى أن حقق أحد المحدثين ([3]) كتابه (الرد على النحاة) وأثار من جديد الاعتراض على نظرية العامل، ودعا هو ومن أيده إلى تجديد النحو بإلغاء نظرية العامل، لأنها بزعمهم مسؤولة عما أصاب النحو من تعقيد وجمود وركود، ودعوا إلى ما سموه بالأخذ بالنهج الوصفي في دراسة النحو، حتى بلغ الأمر بتمام حسان أن يعلن في كتابه (اللغة معناها ومبناها) سقوط نظرية العامل ([4]) وحلول نظرية  أخرى محلها وهي نظريته التي سماها نظرية (تضافر القرائن) .
وقد تابعت منذ سنوات ما كتب عن نظرية العامل والبدائل المقترحة فوجدت قصورا واضحا في فهم نظرية العامل، لأنها تناولت العامل مجردا من مقتضياته التي لا تنفك عنه، ولا يمكن أن تكون نظرية العامل مفهومة على الوجه الصحيح ما لم ينظر إلى مقتضيات العامل على أنها داخلة في صلب النظرية ومن مكوناتها، وقد تنبه أستاذي الدكتور فخر الدين قباوة إلى مسألة مقتضيات العامل في كتابه مشكلة العامل النحوي ونظرية الاقتضاء ،  حيث طرح ما سماه نظرية الاقتضاء لحل الإشكال في نظرية العامل.
لذلك أردت في هذا البحث الذي سميته (الموازنة بين نظرية العامل ونظرية تضافر القرائن في الدرس النحوي) أن أوضح مفهوم العامل بكل مقتضياته، في الدرس النحوي التراثي وأوازانه بالاجتهادات العصرية التي حاولت وضع بدائل لنظرية العامل لنصل إلى ما يمكن أن يكون قولا فصلا في هذه الخلافات التي تضخمت على مرّ الزمان.
فمشكله هذا البحث تحلها الإجابات العلمية عن الأسئلة الآتية:
هل تصح دعاوى علماء اللغة المحدثين عن نظرية العامل ؟
وهل كان لابن مضار حق فيما أثاره عن هذه النظرية؟
وما مقتضيات العامل التي أهملها المحدثون ولم يجعلوها من صميم نظرية العامل؟
وأيهما أصح أن يقال: نظرية العامل أم نظرية الاقتضاء؟
وأيهما أفضل للدرس النحوي نظرية العامل أم نظرية تضافر القرائن التي طرحها الدكتور تمام حسان بديلا عن نظرية العامل ؟
وستكون دراستي على المنهج الوصفي التحليلي في الموازنة بين هاتين النظريتين.
وسأذكر أسماء الباحثين دون ألقاب علمية، مع احترامي لهم ولجهودهم العلمية. وقد أخبرت وأنا أراجع هذا البحث بوفاة تمام حسان صاحب نظرية تضافر القرائن، رحمه الله وجزاه عما قدم للعربية خيرا.
وأدعو الله سبحانه أن يهديني لما اختلف فيه من الحق بإذنه إن ربي على صراط مستقيم.


(1)  (ينظر الكتاب 1/13)
(2)  الكتاب 1/ 33.
(3)  أعني بذلك شوقي ضيف رحمه الله.
(4)  وضع تمام حسان في فهرس الكتاب عنوانا : سقوط نظرية العامل . ينظر ص 377.