الأربعاء، 19 أكتوبر 2011

الموازنة بين نظرية العامل ونظرية تضافر القرائن في الدرس النحوي


بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم الذي علم الإنسان بالقلم علمه ما لم يعلم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأكرم، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الجمع الأعظم، أما بعد

فعندما قال سيبويه في بداية كتابه:
(هذا باب مجاري أواخر الكلم من العربية، وهي تجري على ثمانية مجار، على النصب والجر والرفع والجزم، والفتح والضم والكسر والوقف.
ثم بيّن كيف تكون صفة هذه المجاري في اللفظ بقوله: فالنصب والفتح في اللفظ ضرب واحد، والجر والكسر فيه ضرب واحد، وكذلك الرفع والضم، والجزم والوقف.)
ثم علل جعل المجاري ثمانية لا أربعا كما في اللفظ فقال:
وإنما ذكرت لك ثمانية مجار لأفرق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة لما يحدث فيه العامل _وليس شيئا منها إلا هو ويزول عنه، وبين ما يبنى عليه الحرف بناء لا يزول عنه لغير شيء أحدث ذلك فيه من العوامل التي لكل عامل منها ضرب من اللفظ في الحرف، وذلك الحرف حرف الإعراب. ([1])
عندما قال سيبويه هذه الأقوال كانت نظرية العامل قد اكتملت في الدرس النحوي، وظهرت آثارها في جميع أبواب النحو، فرتبت الأبواب النحوية في كتاب سيبويه وفي جميع لكتب النحو بعده على أساس نظرية العامل، حتى إن سيبويه خصص بعد المقدمات في كتابه وبعد شرح ما يحتمل في الشعر ــ أول باب للحديث عن العوامل القياسية، ودرجات كل منها قوة وضعفا، وهو الباب الذي قال فيه:
(باب الفاعل الذي لم يتعد فعله إلى مفعول، والمفعول الذي لم يتعد إليه فعل فاعل، ولا يتعدى فعله إلى مفعول آخر، وما يعمل من أسماء الفاعلين والمفعولين عمل الفعل الذي يتعدى إلى مفعول، وما يعمل من المصادر، وما يجري من الصفات التي لم تبلغ أن تكون في القوة كأسماء الفاعلين والمفعولين التي تجري مجرى الفعل وليس بفعل ولم يقو قوته، وما جرى من الأسماء التي ليست بأسماء الفاعلين التي ذكرت، ولا الصفات التي هي من لفظ أحداث الأسماء، وتكون لأحداثها أمثلة لما مضى ولما لم يمض ، وهي التي لم تبلغ أن تكون في القوة كأسماء الفاعلين والمفعولين....وليست لها قوة أسماء الفاعلين التي ذكرت لك، ولا هذه الصفات، كما أنه لا يقوى قوة الفعل ما جرى مجراه وليس بفعل) ([2])
انتهى كلام سيبويه الذي جعل الفعل أصلا في العمل، ويأتي بعده في القوة أسماء الفاعلين والمفعولين، ثم الصفات المشبهة بها، ثم أسماء ليست بصفات، ولكنها عملت عملها وهو يقصد كما سيتبين الاسم التام والاسم المنسوب واسم الجنس.
وهكذا نسير في الكتاب على هدي نظرية العامل، ومثله فعل المبرد في المقتضب، وابن السراج في الأصول، غير أن ابن السراج نظم الموضوعات النحوية بصورة أفضل على أساس أن الكلام مؤلف من الاسم والفعل والحرف، فكان ترتيبه مبنيا على العوامل من الأسماء ثم العوامل من الأفعال ثم العوامل من الحروف، وبشكل عام فكل كتب النحو مؤلفة وفق نظرية العامل بوجه من الوجوه، وهذا غير خاف على من له أدنى إطلاع على المؤلفات النحوية.
ولم يعترض النحويون قديما على نظرية العامل إلا ما كان من ابن مضاء القرطبي وبعض علماء الظاهرية، ولم يلتفت إلى اعتراضه جمهور النحويين إلى أن حقق أحد المحدثين ([3]) كتابه (الرد على النحاة) وأثار من جديد الاعتراض على نظرية العامل، ودعا هو ومن أيده إلى تجديد النحو بإلغاء نظرية العامل، لأنها بزعمهم مسؤولة عما أصاب النحو من تعقيد وجمود وركود، ودعوا إلى ما سموه بالأخذ بالنهج الوصفي في دراسة النحو، حتى بلغ الأمر بتمام حسان أن يعلن في كتابه (اللغة معناها ومبناها) سقوط نظرية العامل ([4]) وحلول نظرية  أخرى محلها وهي نظريته التي سماها نظرية (تضافر القرائن) .
وقد تابعت منذ سنوات ما كتب عن نظرية العامل والبدائل المقترحة فوجدت قصورا واضحا في فهم نظرية العامل، لأنها تناولت العامل مجردا من مقتضياته التي لا تنفك عنه، ولا يمكن أن تكون نظرية العامل مفهومة على الوجه الصحيح ما لم ينظر إلى مقتضيات العامل على أنها داخلة في صلب النظرية ومن مكوناتها، وقد تنبه أستاذي الدكتور فخر الدين قباوة إلى مسألة مقتضيات العامل في كتابه مشكلة العامل النحوي ونظرية الاقتضاء ،  حيث طرح ما سماه نظرية الاقتضاء لحل الإشكال في نظرية العامل.
لذلك أردت في هذا البحث الذي سميته (الموازنة بين نظرية العامل ونظرية تضافر القرائن في الدرس النحوي) أن أوضح مفهوم العامل بكل مقتضياته، في الدرس النحوي التراثي وأوازانه بالاجتهادات العصرية التي حاولت وضع بدائل لنظرية العامل لنصل إلى ما يمكن أن يكون قولا فصلا في هذه الخلافات التي تضخمت على مرّ الزمان.
فمشكله هذا البحث تحلها الإجابات العلمية عن الأسئلة الآتية:
هل تصح دعاوى علماء اللغة المحدثين عن نظرية العامل ؟
وهل كان لابن مضار حق فيما أثاره عن هذه النظرية؟
وما مقتضيات العامل التي أهملها المحدثون ولم يجعلوها من صميم نظرية العامل؟
وأيهما أصح أن يقال: نظرية العامل أم نظرية الاقتضاء؟
وأيهما أفضل للدرس النحوي نظرية العامل أم نظرية تضافر القرائن التي طرحها الدكتور تمام حسان بديلا عن نظرية العامل ؟
وستكون دراستي على المنهج الوصفي التحليلي في الموازنة بين هاتين النظريتين.
وسأذكر أسماء الباحثين دون ألقاب علمية، مع احترامي لهم ولجهودهم العلمية. وقد أخبرت وأنا أراجع هذا البحث بوفاة تمام حسان صاحب نظرية تضافر القرائن، رحمه الله وجزاه عما قدم للعربية خيرا.
وأدعو الله سبحانه أن يهديني لما اختلف فيه من الحق بإذنه إن ربي على صراط مستقيم.


(1)  (ينظر الكتاب 1/13)
(2)  الكتاب 1/ 33.
(3)  أعني بذلك شوقي ضيف رحمه الله.
(4)  وضع تمام حسان في فهرس الكتاب عنوانا : سقوط نظرية العامل . ينظر ص 377.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق