يسرني أن أقدم للقراء ما كتبه
إليّ الدكتور خالد الغامدي المتخصص في علم اللغة بعد اطلاعه على ما نشره الدكتور
عبد الرزاق الصاعدي من رد على تغريداتي ، قال الدكتور خالد :
" فرغت الآن من قراءة رد الدكتور عبد الرزاق
الصاعدي ، وهذا تعليق موجز:
١ - لديه لبس أدى إلى خلط في فهم كلام القدماء
والمتأخرين ، فهو لا يفرق فيما يظهر من النصوص الكثيرة التي نقلها عن اللغويين
والنحويين من سيبويه إلى الزبيدي بين الورود والفصاحة ، فمجرد الثبوت لا يستلزم
الفصاحة ، فضلا عما هو أعلى كالأفصحيّة ، فالقاف البدوية أو المعقودة (ما سموه
القيف) ثابتة في لهجات البادية منذ عصر الاستشهاد ، ولكن هل يعني هذا أنها فصيحة
فضلا عن كونها فصحى ؟ ومن ثَم يُقعّد لها بين حروف الفصحى ويوضع لها رمز أبجدي خاص
بها بين رموز أبجدية الفصحى ؟ هو يرى هذا ، ولكنه خطأ علمي وخلط منهجي . يصح علميا
أن يوضع لأي صوت فرعي أو صفة صوتية معينة رمز صوتي خاص لأجل الدرس الوصفي ، وهذا
معروف بين علماء الأصوات في كل اللغات ، لكن لا يصح منهجيا الخلط بين رموز
الكتابة الصوتية ورموز الكتابة الأبجدية .
٢ - تناقَض حين استشهد بهذه النقول على صحة موقفه
( الذي هو الترميز الأبجدي لهذا الصوت ) ؛ فالنصوص التي نقلها منذ سيبويه إلى
الزبيدي واليوسي ( ١١٠٢هـ ) مجمعة على عدم فصاحة هذا الصوت وأنه من الأصوات
المستقبحة في القرآن والشعر ، فهي عليه لا له ، فعلى ماذا يستشهد بها ؟! أعلى مجرد
الورود ؟ هذا لا يعني الفصاحة كما هو معلوم ، وهو خلاف مقصودهم وتحريف لكلامهم .
أم يستشهد بها على الفصاحة ؟ هذا قلبٌ لنصوصهم إلى عكس مقصودهم ! أم على الجواز
لأهل هذه اللهجة قديما وحديثا في غير القرآن والفصيح من الكلام الأدبي وغير الأدبي
( إلا للضرورة ، وسأعقب على استشهاده بكلام الإسنوي ) ؟ هذا لا يُحتاج فيه إلى هذه
النقول ، لأن كل لهجة غير فصيحة يجوز لأهلها أن ينطقوا بها في كلامهم ، قديما
وحديثا ، دون أن يعني هذا أن مجرد نطقهم بها - حتى لو كان في زمن الاحتجاج - يعني
الفصاحة بَلْهَ الأفصحية !
٣ - قول الفيروزآبادي فيما نقله ابن الطيّب عن ابن
حجر حينما سأله عن هذا الصوت : " إنها لغة صحيحة " يخالف ظاهرُه إجماعَ
القدماء على عدم فصاحة هذا الصوت في القرآن والمستوى البليغ من الكلام الأدبي ،
لكن يحتمل تأويله بأنه يقصد بالصحة صحة الثبوت والورود لا فصاحة الاستعمال ، وإنْ
قصد ذلك فهو مخالف للإجماع .
٤ - في نقله عن الإسنوي تدليس ! إذْ بتر النص بنقله
منه ما يؤيد كلامه وحذفه الباقي الذي يخالفه ! فقد وقف بالنقل عن الإسنوي من
الكوكب الدري على آخر قوله : " ونقله النووي في شرح المهذب عن الروياني
" . وتمام النص من كتاب الكوكب الدري ما يلي (ص 604 ت عبدالرزاق السعدي ، ط
الثانية ، مزيدة ومنقحة ، ١٤٣٢هـ ، دار الأنبار) : " ثم قال [ أي النووي في
المجموع شرح المهذب ] : وفيه نظر . ومالَ المحبُّ الطبري في شرح التنبيه إلى
البطلان . لكن اللحن الذي في الفاتحة لا يمنع الصحة إذا كان لا يختل المعنى كما
جزم به الرافعي ، وإن كان حراما كما قاله النووي في شرح المهذب ، وحكى فيه وجهًا
أن الصلاة لا تصح أيضا . وحينئذ فالصحة في أمثال هذه الأمور لأجل وروده في اللغة ،
وبقاء الكلمة على مدلولها أظهر ، بخلاف الإتيان بالدال المهملة في "
الذين " عوضًا عن المعجمة ؛ فإن إطلاق الرافعي وغيره يقتضي البطلان وأنه لا
يأتي [ كذا في المطبوع ، ولعله : يتأتّى ] فيه الخلاف في الضاد مع الظاء ، وسببه
عسر التمييز في المخرج " . انتهى من الكوكب الدري .
ففي هذا النص أمور :
أ - قول الإسنوي الشافعي القرشي : " وهي قاف
العرب " يقصد العرب المعاصرين له من أهل البوادي والأمصار تمييزا لهم عن
غيرهم من المستعربين وأهل الأمصار من ذوي الأصول غير العربية . وكذلك ابن خلدون
حينما يقول : " العرب " أو : " أهل الجيل من العرب " يقصد هذا
المعنى ، ويبدو أن الصاعدي لم يفهم مقصودهم .
ب - هذه المسألة الفرعية ذكرها الإسنوى في سياق
الحديث عن اللحن حينما يستعمل في العبادة ، كاللحن في الفاتحة كما تحدث ونقل عن
فقهاء الشافعية ، فهو وغيره من الفقهاء الذين نقل عنهم ( المقدسي والروياني وابن
الرفعة والنووي والرافعي ) يحكمون بأن هذا الصوت لحن في اللغة الفصيحة ، ويحكمون
كذلك بعدم جواز قراءة القرآن به لمن يستطيع ، ولكن الخلاف الفقهي يتعلق بالصحة
الشرعية في الصلاة : هل تصح الصلاة به أو لا تصح ؟ هذا محل الخلاف في النص الذي
اطلع عليه الصاعدي ونقله مبتورا ، ولعله لم يفهمه ولم يقصد التدليس .
ج - النووي حرم القراءة بهذا الصوت في الصلاة ،
وحكى فيه قولا بعدم صحة الصلاة ، وبين في المجموع وجه النظر في صحة الصلاة مع
الكراهة (على القول الآخر) بأن القارئ لم يأت بالحرف كما هو ، بل أتى بالقاف
مترددا بين حرفين ، فكيف يُتصور مع هذا التشديد الذي أظهروه أنهم يصفون هذا الصوت
بأنه عربي فصيح كما أوهم نقل الصاعدي ؟!
ه - في نقله بيت العجوز الأعرابية عن اليوسي خطأ ؛
إذ أعربه ظنا منه أنه شِعْر بالفصحى ، والواقع أنه بيت من الشعر النبطي سمعه
الدلائي الذي عاش في القرن الثاني عشر الهجري من المرأة البدوية في إحدى بلاد
الحجاز ، فكتبه الصاعدي هكذا :
حجّ الحجيجُ وناقتي معگولةٌ
يا ربّ يا مولايَ حلّ عگالها
فأعرب كلمتي " الحجيج " و " معگولة
" وكذلك نصب الياء في " مولايَ " ظانا أن العجوز نطقت البيت
بالفصحى المعربة ! وهيهات ، فالعجوز بدوية عامية عاشت قبل قرابة ثلاثة قرون ونيف
حسب ما تقول الحكاية ، ولذا فالمفترض أنها سكنت هذه الكلمات : الحجيجْ ، معقولةْ ،
مولايْ . ثم ماذا عن القاف في " ناقتي " ؟ هل نسي اليوسي أن يرسمها برمز
القاف البدوية أم أن العجوز لم تقفقفها (كما يعبر الدكتور الصاعدي ) ؟!
هناك ملحوظات أخرى على كلامه ، ولكن هذا يكفي في
بيان أن كل جهده وحماسه في هذه القضية لا طائل تحته ، واستشهاداته بنصوص اللغويين
والنحاة لا تخدم هدفه وهو الاعتداد بفصاحة هذا الصوت ومن ثم الترميز له بشكل مستقل
بين رموز أبجدية العربية الفصحى ، فهذا أمر مرفوض من القدماء والمتأخرين جميعا ،
لأنه يسيء إلى العربية الفصحى ولا يخدمها خلاف ما توهم الدكتور الصاعدي الذي نحسب
أنه أراد الخير للفصحى ولكن لم يحالفه التوفيق ، وعلى كلٍ يُحسب له تحريك الساحة
بالتفكير والحوار ، وهو أمر مفيد للفكر والثقافة " .
وكان الدكتور خالد قد اطلع قبل هذا على قرار
المجمع وكتب هذا التعليق :
" في نقاشهم وقرارهم خلْطٌ بين الصوت والحرف
؛ فالصوت الواقع بين القاف والكاف الذي ذكره القدماء واستشهدوا له بقول الشاعر :
ولا أگول لگدر الگوم ...إلخ هو صوت ينتمي إلى حرف القاف / ق / ؛ أي ما يسمى في
الصوتيات الحديثة : " تنوع صوتي " أو : " متغيِّر صوتي " allophone ، أما الصوت الأساس وهو
المسمى حرفا فهو القاف ، والصوت الأساس في الصوتيات الحديثة هو الفونيم phoneme وترجمه بعضهم بالصوت المجرد
، وبعضهم قال: صوتيم ، والأولى في نظري ترجمته بالحرف ، فالحرف ( الفونيم ) صوتٌ
أساسٌ يشمل تنوّعين صوتيين على الأقل ، كما يشمل حرف القاف مثلا التنوعات ( الألوفونات
) التالية :
١ - القاف الفصحى المشهورة اللهوية .
٢ - والقاف التي بين القاف والكاف ، وهي
التي سموها " القيف " .
3 ـ وقافٌ أخرى بين القاف والكاف ، تنطق كافا
مفخمة ، وهي بعض اللهجات المعاصرة ، في جزيرة العرب ومصر وغيرها .
4- والقاف التي تنطق همزة كما في اللهجة المصرية .
5- والقاف التي تنطق غينا كما في اللهجة الكويتية
.
فهذا الصوت الذي ناقشوه مجرد تنوع صوتي داخل حرف
القاف ، فلا يصح والحالة هذه وضع رمز أبجدي له بين الحروف الأبجدية الأساسية ،
وإلا لزمهم وضع رموز لكل أصوات الحروف ، وستبلغ حينئذ العشرات !! وهذا خلط في
المفاهيم وخلل في المنهج وعبث في الطرح !!
نعم يمكن وضع رموز لأصوات الحروف ( ألوفونات
الفونيمات ) لكن على أنها رموز صوتية للألوفونات لغرض الدراسة الوصفية كما يفعل كل
علماء الأصوات ، لا على أنها رموز للأبجدية للتعبير عن الحروف ( الفونيمات ) كما
فعلوا .
وفي قرارهم اضطراب في المصطلحات ؛ فمرة سموه صوتا
ومرة سموه حرفا ، مما يدل على أنهم لم يدركوا الفرق بين الأمرين . كذلك حينما
نقلوا عن القدماء قولهم : " الأصوات الفروع " ( ذكره سيبويه وابن جني
وغيرهما ) ؛ فالفروع يقصدون بها ما يسمى الآن " التنوعات الصوتية "
(ألوفونات) ، وقسموها : مستحسنة ومستقبحة ؛ فالفروع تقابل الأصول كما هو معلوم ،
فكيف يضعون للفرع رمزا خاصا بين رموز الأصول وكأنه مستقل ؟!
الخلاصة : إن التنوع الصوتي الذي قرروا بشأنه ما
قرروا هو ألوفون لهجي ضمن فونيم / ق / ، وله رمزه الصوتي الخاص في الدرس الصوتي ، أما
في أبجدية أصوات العربية الفصحى فلا يصح وضع رموز للألوفونات ( الأصوات ) بين رموز
الفونيمات ( الحروف ) المعروفة ، لا گ ولا الرمز الذي وضعوه للقاف البدوية ولا
غيرهما ، لأن لهذا عواقب خطيرة كما هو معلوم لدى كل ذي علم ووعي .
جيد
ردحذف